سيد مكاوي.. ألحان لا تموت وعبقرية تتحدى الزمن

في ذاكرة الفن المصري، يظل اسم الموسيقار سيد مكاوي محفورًا كنغمة لا تشيخ، وروح لا تنطفئ، لم يكن مجرد ملحن أو مطرب، بل كان مشروعًا فنيًا متكاملًا، جسّد من خلاله ملامح مصر الشعبية، بحواريها وأزقتها ومقاهيها، وأحزانها وفرحها، ورغم مرور أكثر من ربع قرن على رحيله في 21 أبريل 1997، ما زالت ألحانه حيّة في الوجدان، ترددها الألسنة وتستحضرها الذاكرة الجمعية، كلما جاء ذكر رمضان أو الليلة الكبيرة أو حتى الطرب الأصيل.
وُلد سيد مكاوي في حي الناصرية بالسيدة زينب عام 1927، ونشأ في بيئة شعبية طابعها الأساسي هو البساطة والصدق، وهي البيئة التي شكّلت وجدانه الفني، وكانت مصدر إلهام دائم له، فقد بصره في سن مبكرة، لكن الله عوّضه ببصيرة نافذة وروح مرهفة جعلته يرى العالم بأذنه وقلبه، فيلتقط التفاصيل الصغيرة ويحولها إلى لحن خالد أو مقام جديد.
امتاز مكاوي بقدرته على التجريب والابتكار، دون أن يقطع الصلة بتراثه الموسيقي، كان بارعًا في المزج بين الموسيقى الشعبية والمقامات الشرقية، وفي الوقت نفسه لم يتردد في إدخال آلات غربية أو أساليب جديدة في التوزيع، دون أن يفقد روحه المحلية. ولعل من أبرز أسباب خلوده أنه لم يلحن من أجل المجد الشخصي، بل من أجل التعبير الحقيقي عن مشاعر الناس.
قدّم أعمالًا عظيمة لكبار المطربين مثل أم كلثوم، التي غنت له "يا مسهرني"، ووردة، وعبد الحليم حافظ، لكن ظلت بصمته الأهم فيما غنّاه بصوته، مثل أغنيات "الأرض بتتكلم عربي"، و"المسحراتي".
منذ ستينيات القرن الماضي، ارتبط صوت سيد مكاوي بليالي رمضان، بعدما جسّد شخصية "المسحراتي" بطريقة فريدة، بالشراكة مع الشاعر فؤاد حداد، في عمل عبقري جمع بين الغناء والشعر والحكاية الشعبية، أكثر من مئة حلقة مسحراتية، قدم فيها مكاوي دروسًا في التاريخ، والحكمة، والدين، والسياسة، مغلفة بلحن شعبي بسيط وعذب، قريب من وجدان المصريين.
كان يرتدي الجلباب البلدي ويمسك بطبلته الصغيرة، ويبدأ بالغناء بصوته المميز: "اصحى يا نايم وحد الدايم"، هكذا تحول هذا العمل من صورة لواحدة من الطقوس الرمضانية الشهيرة إلى حالة وجدانية يتوارثها الناس جيلًا بعد جيل، تؤكد أن الفن الحقيقي لا يعترف بزمن.
أما أوبريت "الليلة الكبيرة"، الذي أبدعه بالاشتراك مع الشاعر صلاح جاهين، فهو شهادة عبقرية تُثبت مكانته الخالدة في وجدان الأمة، إذ كان بمثابة ثورة فنية، تناول العمل مظاهر الاحتفال بالمولد الشعبي، من خلال شخصيات مثل القهوجي، بائع الحمص، العروسة، الحاوي، والأراجوز، وغيرهم من رموز الفولكلور المصري.
بفضل ألحان سيد مكاوي المبهجة والغنية، وكلمات صلاح جاهين الزاخرة بالروح المصرية، وعرائس ناجي شاكر، أخرج صلاح السقا عملاً يُعد حتى اليوم من روائع المسرح الغنائي، إن لم يكن الأبرز على الإطلاق. “الليلة الكبيرة” ليست مجرد أوبريت، بل هي وثيقة حية للروح المصرية، ومرآة ناصعة لثقافة الحارة والمولد.
في النهاية، خلود سيد مكاوي لا يعود فقط لموهبته الفذة، بل لأنه كان صادقًا. لم يتصنّع، لم يتكلف، ولم يركض خلف الأضواء. آمن بالفن كرسالة، وكان صوته صوت الناس البسطاء. اختار دائمًا التعبير عنهم، وعكس مشاعرهم، واحتفظ بملامحهم في كل نغمة ولحن.
كما أن اعتماده على التراث الشعبي، وتوظيفه بطريقة ذكية ومبتكرة، جعله قريبًا من كل من يستمع إليه، سواء في الريف أو المدينة، في الستينيات أو الألفينات، لذلك، لا عجب أن تبقى أعماله حتى الآن حاضرة في الذاكرة، بل وتُعاد تقديمها في الحفلات، وتُدرّس في معاهد الموسيقى.