حربوقراط.. تعرف على إله الصمت عند المصريين القدماء

في قلب الحضارة المصرية القديمة، حيث تتشابك الأسطورة مع الطقوس اليومية، وُلدت آلهة ارتبطت بتفاصيل دقيقة من حياة الناس، لم تكن بالضرورة تجسيدًا للإله الخالق، بل أقرب إلى رموز للشكر والعرفان المرتبط بمجالات كالنيل، والهواء، والزراعة، والخصوبة. من بين هذه الرموز، يبرز "حربوقراط" – إله الصمت، والأسرار، والسرية، الذي عبر من مصر القديمة إلى الثقافة الهلنستية ليتحول إلى أحد أبرز رموز الغموض والهدوء.
"حربوقراط" ما هو إلا تحوير هلنستي للاسم المصري "حور-با-غرد" أو "حرو-با-غرد"، والذي يعني حرفيًا "حورس الطفل"، في إشارة إلى حورس الصغير، رمز الشمس الوليدة التي تشرق كل يوم من جديد في الفن المصري القديم، صُوِّر هذا الإله الطفل كصبي عارٍ يضع إصبعه على فمه، في تجسيد للعلامة الهيروغليفية التي ترمز ببساطة إلى "الطفل".
لكن مع انتقال هذه الرمزية إلى العالم اليوناني-الروماني، وقع سوء فهم بسيط لكنه شديد التأثير؛ حيث فسّر الشعراء والفلاسفة هذا الإيماء كرمز للصمت، لا الطفولة. ومن هنا، أصبح "حربوقراط" عند الإغريق والرومان إلهًا للصمت والأسرار، وتم دمجه لاحقًا في العديد من الطقوس الغامضة التي انتشرت في العالم الهلنستي والروماني.
ورغم أن "حربوقراط" مثّل النسخة الطفولية من حورس، إلا أن النسخة البالغة من الإله نفسه كانت تحمل رمزية مختلفة تمامًا؛ فقد كان "حورس الكامل" هو إله الشمس المنتصر، الذي يتغلب على الظلام في دورة أبدية من الصراع والنصر. وغالبًا ما صُوِّر برأس صقر، طائر الباز الذي يحلّق عاليًا في السماء، في تجسيد للقوة والحكمة.
وتروي الأساطير المصرية صراعه الشرس مع الإله "ست"، الذي انتهى بانتصار حورس وتتويجه كحاكم لمصر، ليصبح بعدها رمزًا لكل فرعون، وتجسيدًا إلهيًا للحكم العادل والقوة المستنيرة.
لم تتوقف رمزية "حور-با-غرد" عند حدود الطفولة، بل تجاوزت ذلك إلى الحماية والشفاء. فقد ظهرت نقوش وتماثيل له في ساحات المعابد وهو يقف فوق تمساح ممسكًا بثعابين، كناية عن قدرته على ترويض قوى الشر والسيطرة عليها. كانت هذه اللوحات تُطهر بالماء، ثم يُستخدم الماء نفسه كأداة للبركة والشفاء، نظرًا لقدسية هذا الإله في حماية الناس من الأذى والمرض.
مع مطلع العصر الميلادي وعودة انتشار الطقوس الغامضة في العالم الهلنستي، أعيد اكتشاف حورس – أو "حربوقراط" – ليُدمج مع طقوس عبادة الآلهة الغامضة مثل إيزيس وسيرابيس. وبرز في الأدب والشعر اللاتيني، حيث أشار إليه الكاتب ماركوس تيرينتيوس فارو في مؤلفه "De lingua Latina"، باعتباره رمزًا للصمت الذي يفرضه على البشر بإصبعه الموضوع على شفتيه.
ووصفه أوفيد في أعماله، ضمن مشهد غني يضم آلهة مصرية، حيث قال عن إيزيس: "على جبينها قرون الهلال، مكللة برؤوس القمح الذهبية، وإلى جانبها الإله الذي يضع إصبعه على فمه من أجل الصمت".
في النهاية، تبقى قصة "حربوقراط" واحدة من أكثر القصص الرمزية إثارة للدهشة في التاريخ الديني القديم، فهي مثال حيّ على كيف يمكن لرمز بسيط أن يُعاد تفسيره في ضوء ثقافات أخرى، ليحمل معانٍ جديدة تظل حيّة حتى يومنا هذا.