بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

الكاتب تالصحفى أحمد جلال عيسى يكتب :حرائق على مقاس “الجماعة”.. حين يتحول القدر إلى مخطط تخريبي

الكاتب الصحفى أحمد جلال عيسى
-

ثمة فارق جوهري، لا يخطئه العقل السوي، بين ما يُسمى قضاءً وقدرًا، وبين ما يُصنَّف ضمن خانة التعمد والتخريب. بين حادث عَرَضي، يُمكن تفسيره في إطار الأعطال أو الإهمال، وبين فعل ممنهج تُطبخ نيرانه في عقول سوداء مريضة، ثم تُشعل عمدًا لإحداث أقصى قدر من الترويع والاضطراب ،في السياسة، كما في الحياة، هناك أقدار تفرضها الطبيعة، وهناك جرائم تُصنع في الظلام. الفارق بينهما لا يكمن فقط في النية، بل في التوقيت، والسياق، والتكرار، والأثر. وإذا استعصى على البعض إثبات النوايا، فإن قراءة التاريخ كفيلة بأن تضع النقاط على الحروف. فالماضي ليس مجرد ذكريات، بل سجل للأنماط، وخريطة تكرار، ومفتاح لفهم ما قد يكون قادمًا.

الحرائق التي طالت بعض المنشآت الحيوية مؤخرًا، من بينها سنترال رمسيس، لا يمكن النظر إليها كحوادث عرضية معزولة عن سياقها. الخطورة لا تكمن في الحريق ذاته، بل في القدرة على استدعاء الحريق وقت الحاجة، وفي الترويج له كقَدَرٍ نزل من السماء، هكذا تفكر جماعة الإخوان الإرهابية، وهكذا دأبت على استخدام الأزمات، لا كاختبارات، بل كأدوات سياسية، تُستدعى كلما شعرت بأن الأرض بدأت تميد تحت أقدامها.

المؤسف أن هناك من لا يُميّز، بحسن نية أو بسوء وعي، بين المصادفة والتخطيط، بين عطل كهربائي وخلية سرية تُحرّك، بين عبث القدر وإرادة التخريب. في دولة بحجم مصر، حين تتكرر حوادث الحرائق في مرافق استراتيجية، ويحدث ذلك وسط زخم سياسي أو استحقاقات وطنية، فإن التساؤل لم يعد عن “السبب الفني المباشر”، بل عن “السياق السياسي الأشمل”.

من الخطأ الفادح فصل “الفكر” عن “الفعل” داخل بنية جماعة الإخوان. فما يُطرح كتنظير في رسائل حسن البنا، أو كتحريض فكري في كتابات سيد قطب، سرعان ما يتحوّل إلى تكليف مباشر لأفراد التنظيم. هذه ليست اجتهادات فكرية، بل نصوص تعبئة، تُؤسس لشرعية العنف، وتُبرر التخريب باسم الدين ، حين كتب سيد قطب عن “المجتمع الجاهلي”، لم يكن يمارس التأمل الفقهي، بل كان يُرسّخ لفكرة أن المجتمع المصري كافر، وأن “تطهيره” من الفساد مهمة دينية. هكذا نشأت “العقيدة القتالية” داخل الجماعة، وهكذا تحول الفكر إلى تفجير، والدعوة إلى قتل، والنص إلى حريق.

ما بين حريق القاهرة في يناير 1952، الذي حمل بصمات الجماعة، إلى يوم فض اعتصامي رابعة والنهضة، حين اشتعلت مصر من الكنائس إلى أقسام الشرطة، إلى المدارس ومقرات النيابة، وُلدت سُنة التنظيم: التخريب في لحظة الانكسار، والحريق عند تراجع النفوذ ، لم يكن ذلك مجرد انتقام. بل رسالة موجهة إلى الدولة: “الاستقرار ليس مجانيًا”. نفس النمط يتكرر اليوم، ولكن بأدوات أكثر تطورًا. إشعال نار صغيرة في موضع حيوي، تزامن مع بث إشاعات منظمة، استغلال منصات إعلامية خارجية، وتضخيم الحدث سياسيًا. الهدف لم يتغير: إرهاب المجتمع، وإرباك الدولة، وزعزعة الثقة.

اليوم تتكرر الحرائق في توقيت سياسي حساس. انتخابات تقترب، واقتصاد يتعافى، ودور إقليمي يتعاظم. والمُريب أن النيران تطال مرافق خدمية لها طابع استراتيجي. هل هذا محض صدفة؟ أم أن هناك من يعمل على إشعال مصر مجددًا، تحت راية “القدر”؟ ، من يقرأ التوقيت، يدرك أن هذا العبث ليس مجرد عرض عرضي، بل جزء من استراتيجية تخريب نائمة، يُحرّكها من خلف القضبان، أو من وراء الشاشات، نفس العقل الذي لا يرى في الوطن إلا مشروعًا يجب هدمه لبناء “الخلافة”.

أخطر ما في المشهد أن الجماعة لم تُهزم فكريًا أو تنظيميًا بالكامل. صحيح أنها خسرت مواقعها في السلطة، لكن خلاياها لم تُستأصل بالكامل. وهناك، داخل السجون، من لا يزال يُحرّض ويُخطط ويُصدر بيانات كأننا أمام غرفة عمليات تنظيمية وليس زنزانة ، بعض قيادات الجماعة صدرت ضدهم أحكام إعدام نهائية وباتة في جرائم قتل وتفجير وتحريض. ومع ذلك، لا يزالون أحياء، يُراهنون على الزمن، يزرعون الفتنة، ويُؤججون الخطاب العدائي.

إننا هنا لا نطالب بالانتقام، بل نُطالب بتطبيق العدالة. لا يجوز أن تُصبح الأحكام القضائية مجرد أوراق محفوظة. نُطالب بتنفيذ أحكام الإعدام بحق هؤلاء فورًا، حماية للوطن، وإحقاقًا للعدالة، وإرسالًا لرسالة رادعة: الدولة لا تُساوم على أمنها، ولا تُراهن على النسيان.

ما لا يفهمه البعض، أن جماعة الإخوان ليست حزبًا يمكن حله بقرار، أو جماعة يمكن تحجيمها بعقوبة. إنها مشروع أممي عقائدي سياسي أمني، يقوم على السرية، والتكتيك، والمرونة التنظيمية ، كلما ضُربت في مكان، أعادت ترتيب صفوفها في آخر. إذا جُفف تمويلها من جهة، عاد من جهة أخرى. إذا أُغلقت قناة، فُتحت مئات الصفحات على مواقع التواصل ،، حتى الآن، لم تُحاكَم جميع شبكات تمويلها، ولم تُفكك كل خلاياها النائمة، ولم تُوقف أذرعها الإعلامية الخارجية عن الكذب والتحريض. ولهذا، فإن الحل لا يكمن فقط في المواجهة الأمنية، بل في تفكيك المشروع برمّته: فكرًا، وتنظيمًا، وخطابًا.

من يقرأ التاريخ، يدرك أن كل تقدم وطني يقابله هجوم من الجماعة. فنجاح الدولة في إعادة بناء الاقتصاد، أو في تحسين معيشة المواطن، أو في استعادة دورها الإقليمي، هو فشل مباشر لمشروع الجماعة القائم على الكراهية والاحتكار والوصاية ،الدولة الوطنية الحديثة هي نقيض تمامًا لفكر “الطليعة المؤمنة” الذي يقوم عليه خطاب الإخوان ، دولة قوية مستقرة، تُفكك تلقائيًا خطاب العنف، وتُجهض مشاريع الفوضى، وتُنهي أكذوبة “المظلومية” التي يُتاجر بها التنظيم.

منذ تأسيس الجماعه الارهابيه عام 1928، لم تُنتج الجماعة سوى العنف والدم، والانقسام ،لم تعترف يومًا بخطأ، ولم تُراجع فكرها، ولم تُقدّم اعتذارًا وطنيًا صادقًا. تراهن فقط على الزمن، وعلى نسيان الشعوب، وعلى تآكل الذاكرة الوطنية ، لكن مصر بعد 30 يونيو لم تعد كما كانت. الدولة فهمت حجم التنظيم، درست تركيبته، كشفت أذرعه، وواجهته بأدوات قانونية ودستورية وشعبية، دون أن تسقط في فخ الانتقام أو الفوضى.

نحن بحاجة إلى أكثر من مواجهة أمنية. نحتاج إلى إعلام وطني يقظ، ومواطن مدرك، ومجتمع محصّن ضد خطاب الجماعة المضلل. لا يجب أن نُطبع مع الحرائق، ولا أن نُصدّق حكايات “المظلومية” الكاذبة ، فمن يستهين بخطر جماعة تُقدّس إسقاط الدولة، يُهدد وجود الدولة نفسها. ومن يُسامح من يرى في الحريق عبادة، هو شريك في الحريق

كاتب المقال الكاتب الصحفى أحمد جلال عيسى مدير تحرير جريدة الاهرام