سامح لاشين يكتب هل اللعبة الأمريكية تحرق الأصدقاء ايضا ؟

على مدار تاريخ الصراع في المنطقة، ظهرت لحظات كاشفة تعكس حقيقة ما وصلت إليه دولها. لحظات تكشف أن ما يُسمى بـ”الأمن القومي العربي” أو “الأمن الخليجي” لم يكن يومًا واقعًا صلبًا، بل مجرد شعارات. والواقع أن تاريخ هذه المنطقة مليء بدول لعبت أدوارًا وظيفية لصالح الاحتلال والاستعمار، ثم لاحقًا لصالح الهيمنة الأمريكية، دول تماهت مع الأجندات الخارجية بصورة أقرب إلى الخيانة العلنية.
ولكي تكون الصورة أوضح: إسرائيل لم تهيمن يومًا بذاتها، بل كانت ولا تزال أداة من أدوات الهيمنة الأمريكية وذراعها الرئيسية في المنطقة. أما ما يُقدَّم لنا من “تناقضات” بين الطرفين، فليس إلا تكتيكات عابرة، بينما الاستراتيجيا الكبرى واحدة ومتماسكة.
لم يعد لدينا ما يمكن أن نطلق عليه “نظامًا إقليميًا عربيًا” بالمعنى التقليدي. حتى ذلك الشكل الذي بدى لنا يومًا ما أكثر تماسُكًا، لم يكن في حقيقته إلا نظامًا هشًا ممزقًا، غارقًا في الصراعات، وتقاسمه النفوذ السوفيتي والأمريكي في زمن الحرب الباردة. اللعبة الدولية آنذاك هي التي أعطته مظهر التماسك، لا ذاتية الدول ولا إرادتها المستقلة. ومع مرور الزمن، تهاوت هذه البُنى حتى وصلت اليوم إلى مرحلة التلاشي الكامل.
وفي كل مرة تغيّرت فيها قواعد اللعبة، لم تهتز مكانة إسرائيل، بل بقيت قادرة على العربدة. والحقيقة أن هذه القدرة ليست ذاتية فيها، بل لأن الولايات المتحدة تحافظ عليها كأداة وظيفية لا غنى عنها. يكفي أن نستعيد مشهدين من التاريخ: الأول في 1982، حين اجتاحت إسرائيل لبنان واحتلت بيروت وجلس بشير الجميل على كرسي الرئاسة محمولًا على دبابات شارون. والمشهد الثاني في 1988، حين حلّقت الطائرات الإسرائيلية لتضرب قادة المقاومة الفلسطينية في تونس. في كل مرة كانت اللحظة كاشفة: الوهن العربي في تزايد، والقدرة الإسرائيلية تتضخم، ليس لأنها قوية بذاتها، بل لأنها لم تجد من يقطع اليد الأمريكية التي تحميها.
الجديد في اللحظة الراهنة أن إسرائيل قصفت وفد التفاوض الفلسطيني في قطر، إحدى أهم المحميات الأمريكية في الخليج، هنا لا نتحدث عن حدث عابر، بل عن رسالة مباشرة: لا حصانة لأي دولة، مهما كانت درجة تحالفها مع واشنطن. قد يكون ذلك بإذن قطر نفسها وتنسيقها مع الولايات المتحدة، وقد يكون بغير إذنها، لكن في الحالتين النتيجة واحدة: الكلمة العليا لإسرائيل ما دامت محمية بالمظلة الأمريكية.
ورغم كل ذلك، يصف البعض ما حدث بأنه “تحول في قواعد اللعبة” لمجرد أن إسرائيل تجرأت على الضرب داخل إحدى دول الخليج، ربما كان ذلك صحيحًا من زاوية رمزية، لكنه في جوهره استمرار للمسار نفسه: دول تُقيم أكبر تعاون اقتصادي مع إسرائيل، ثم تقف عاجزة حين تُخترق أجواؤها، سواء بعلمها أو بغير علمها، لأنها في النهاية لا ترى قيمة لحماس أو غيرها من فصائل المقاومة في ميزان “أمنها الداخلي”.
لكن الحقيقة التي يتغافل عنها الجميع أن هذا “الأمن” الذي يراهنون عليه ليس بأيديهم أصلًا، بل في يد الولايات المتحدة. وهي تستطيع في أي لحظة أن تعيد خلط الأوراق، وتفتح أبواب الفوضى، وتحوّل ما يظنونه حصانة إلى مصدر تهديد وجودي.
ومن ثم، فإن ما نشهده اليوم من تحولات لا يغيّر جوهر المعادلة: اللعبة لا تزال في يد الولايات المتحدة التي تحافظ على عربدة ذراعها الإسرائيلية، وتمنحها موقع القوة الإقليمية النافذة القادرة على التحكم في سياسات دول المنطقة، بالصفقات حينًا وبالرصاص حينًا آخر. ومع عودة ترامب وتحالفه الوثيق مع نتنياهو، لا نتوقع أن نجد سقفًا أو محددات عقلانية تضبط المشهد، بل سنشهد كل ما هو إجرامٌ فاضح وابتذال سياسي لا حدود له. والمستقبل – بلا شك – يحمل فصولًا أكثر قسوة.
كاتب المقالات الكاتب الصحفى سامح لاشين مدير تحرير جريدة الاهرام