الكاتب الصحفى صالح شلبى يكتب : رضينا بالهم... والهم مش راضي بينا!

يقولون إن الأمثال الشعبية خلاصة تجارب الشعوب، والحقيقة أن أمثالنا لا تكتفي بعرض التجارب، بل تفضحنا بمنتهى الصراحة ، خذ مثلًا المثل العظيم: «رضينا بالهم والهم مش راضي بينا»، جملة قصيرة لكنها تصلح عنوانًا لسيرة حياة شعب بأكمله يعيش منذ عقود في علاقة رسمية مع الهم، موثقة بختم الدولة وموقعة من القدر!
فالهم عندنا لم يعد ضيفًا ثقيلاً ننتظر رحيله، بل صار أحد أفراد العائلة، له مكان ثابت على السفرة، وكرسي مخصص أمام التلفزيون، وأحيانًا يتدخل في قراراتنا السياسية والعاطفية والاقتصادية ، نحن رضينا به عن طيب خاطر، بل واحتضناه قائلين “ ما إحنا كده كويسين”، لكن المفاجأة أنه، رغم كل هذا الحنان، ما زال غير راضٍ بينا!
خذ مثال الموظف الذي يذهب لعمله وهو نصف نائم ونصف مديون. كل يوم يتعهد لنفسه أن يصبر، فربما تتحسن الأحوال، لكنه يعود ليكتشف أن الأحوال تحسنت فعلًا، لصالح غيره ، ورغم كل هذا، تجده يقول مبتسمًا: «الحمد لله، أحسن من غيري»، ولو سألته من هو “غيرك”، سيشير حوله بعشوائية لأننا كلنا “غير بعض” في نفس القارب الذي اسمه «الرضا بالهم».
أما المواطن الطموح، الذي قرر أن يفتح مشروعًا صغيرًا بعد أن سئم من طوابير التوظيف، فيبدأ بحلم بسيط وكشك قهوة. لكنه ما إن يفرح بأول زبون حتى يظهر له موظف محليات يحمل دفتر مخالفات أكثر من عدد زبائنه، فيتحول الحلم إلى محضر، والكشك إلى ذكرى. فيقول ساخرًا: «ما هو الهم مش راضي بينا أصلًا».
وإذا انتقلت إلى الطلبة، فالحكاية أكثر درامية، الطالب المصري يذاكر ليلاً ونهارًا، فيخرج من الثانوية العامة وهو يشعر أنه خاض معركة ضد قوى الشر، ثم يدخل الجامعة ليكتشف أن المكافأة الوحيدة هي شهادة يمكن أن تضعها كديكور على الحائط، وفي تلك اللحظة يسمع صدى صوت الجد في أذنه يقول المثل الآخر الذي يكمل المأساة: « يا قعدين يكفيكم شر الجايين!»
آه يا سادة، ما أصدق هذا المثل! فهو ليس تحذيرًا عابرًا بل نبوءة مصرية قديمة تُكتب على جبين كل جيل جديد. فإذا كنا اليوم نرضى بالهم، فالقادم يحمل همًّا من الجيل المطور — بإصدار أحدث، وسعة تخزين أكبر! وكأن الأجداد يقولون لنا: "لو فاكرين اللي أنتم فيه صعب، استنوا لما تشوفوا اللي جاي!"
انظر حولك وستفهم المثلين معًا: الأسعار تقفز كل يوم كأنها تمارس رياضة الوثب العالي، الفواتير تتكاثر مثل الأرانب، والمواصلات تحتاج لمعجزة، والوظائف مثل الكائنات المنقرضة لا تراها إلا في المتاحف، كل هذا يجعلنا نتمتم في سرنا: «رضينا بالهم والهم مش راضي بينا... يا قعدين يكفيكم شر الجايين».
حتى في الحب، الذي يُفترض أنه ملاذنا من الهم، اكتشفنا أنه فرع جديد من نفس المؤسسة، فالشاب يحب الفتاة، لكن لا يملك شقة ولا شبكة ولا حتى “بوكيه ورد على قسطين”، والفتاة تحلم بفارس أحلام، فتكتشف أن الفرسان انقرضوا مع الديناصورات، وما تبقّى منهم يطلب شراكة في الإيجار! وهكذا يتحول الحب إلى مشروع خاسر يديره الهم شخصيًا.
والتكنولوجيا لم ترحمنا هي الأخرى، كنا نظن أن الإنترنت سيخفف عنا، فإذا به يزيد الطين بلّة، نفتح هواتفنا لنرى وجوهًا مبتسمة في صور معدّلة، بينما نحن نحاول أن نخفي كآبتنا خلف “إيموجي” ضاحك. حتى وسائل التواصل لم تعد تواصلًا بقدر ما صارت معرضًا جماعيًا للهموم الملونة.
الحقيقة أننا لا نعيش" الهم " ، فقط، بل نتعايش معه بفخر واحتراف. نُربّيه كما نربي نباتات الزينة، ونسقيه يوميًا بالقلق والانتظار. نحلم أن يرحل، ثم نخاف أن يترك فراغًا لا نعرف كيف نملؤه.
وفي النهاية، يأتي المثلان ليكملا بعضهما في سيمفونية واقعية ساخرة، الأول يخبرنا بأننا رضينا بالهم رغم عناده، والثاني يذكّرنا بأن القادم — كالعادة — أسوأ!
باختصار، نحن شعبٌ يضحك في وجه " الهم " ،كأنه صديق قديم، نرفع له القبعة ونقول: «عيش معانا.. بس خف شوية!»، لكن يبدو أن" الهم " أخذها بجد، فجلس معنا مطمئنًا وقال بثقة: «ما تقلقوش... لسه الجاي أحلى!»

