الدكتورة ميادة محمود تكتب :استدامة التعليم بين الخيال والتطبيق: طريق مصر نحو 2030

في زمن تتسارع فيه التحولات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية بوتيرة غير مسبوقة، تتزايد معه الحاجة إلى تعليم قادر على مواكبة التحديات وتشكيل أجيال قادرة على بناء مستقبل مستدام. وبينما يرى البعض أن "استدامة التعليم" مفهوم نظري أو حلم لا يزال حبيس الخيال يصعب تطبيقه، تكشف التجارب المصرية والعربية والعالمية أن الطريق نحو التعليم المستدام أصبح واقعًا يتبلور خطوة بعد أخرى.
يقف التعليم الان عند مفترق طرق حقيقي: فإما أن يصبح قوة تدفع المجتمعات نحو مستقبل أكثر استدامة، أو يتحول إلى عبء يجرّ الأجيال إلى الخلف.
اليوم، لم يعد التعليم مجرد فصول دراسية وكتب ومناهج، بل أصبح قضية أمن قومي، وركيزة أساسية في مواجهة تحديات كبرى مثل تغيّر المناخ، والتحول الرقمي، وتقلّبات الاقتصاد العالمي.
وسط هذا المشهد، تبرز رؤية مصر 2030 باعتبارها ميثاقًا وطنيًا يضع التعليم في قلب التنمية المستدامة، ويتقاطع في أهدافه مع الأجندة العالمية للتنمية المستدامة.-كيف يبدو هذا الواقع؟ وأين تقف مصر والعالم العربي؟ وهل نحن مستعدون للمنافسة في معركة البقاء التي سيحسمها التعليم وحده؟
استدامة التعليم!! … لماذا أصبح ضرورة؟
لم يعد التعليم مجرد عملية لنقل المعرفة، بل منظومة شاملة تهدف إلى:
1. إعداد متعلمين يمتلكون مهارات التفكير النقدي والتواصل الفعال والابتكار.
2. دمج مفاهيم البيئة والتغير المناخي في المناهج.
3. ضمان فرص تعليم عادلة وشاملة لكل الفئات.
4. استخدام التكنولوجيا بكفاءة لتطوير العملية التعليمية وتقليل الهدر.
تعني الاستدامة في التعليم أن يكون النظام التعليمي قادرًا على:
1. التكيّف مع المتغيرات مثل الذكاء الاصطناعي، الرقمنة، الاقتصاد الرقمي.
2. الدعم المستمر دون إرهاق الموارد البشرية أو المالية للدولة.
3. تأهيل المتعلم ليكون قادرًا على التعلم مدى الحياة وليس خلال سنوات الدراسة فقط.
4. ربط التعليم بسوق العمل والابتكار وليس بالمناهج التقليدية الجامدة.
لقد أصبح التعليم المستدام قضية وجودية للمجتمعات، وقضية أمن قومي على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي.
التعليم في قلب التنمية المستدامة( مصر ورؤية:2030)
وضعت رؤية مصر 2030 التعليم في مقدمة محاورها، باعتباره أساس بناء الإنسان المصري. وتضمنت الرؤية أهدافًا واضحة أهمها:
1. تحسين جودة التعليم بما يتوافق مع المعايير الدولية.
2. إتاحة التعليم للجميع دون تمييز.
3. تعزيز البحث العلمي والابتكار.
4. دمج البعد البيئي في السياسات والمناهج.
خطوات تحققت فعليًا:
1. إطلاق نظام التعليم الجديد (2.0) في مرحلة رياض الأطفال والابتدائي.
2. الشمول الرقمي من خلال المنصات التعليمية المجانية ومنصات التعلم الذكي، أصبحت المنصات الرقمية جزءًا أساسيًا من حياة الطالب والمعلم، مع توسع كبير في البنية التحتية للاتصال.
3. توسّع غير مسبوق في الجامعات الأهلية والدولية والتكنولوجية.
4. دعم التعليم الفني والتكنولوجي :أنشأت مصر مدارس تكنولوجية تطبيقية تربط التعليم بسوق العمل وفق معايير دولية.
5. تعزيز دور الجامعات حيث اعتمدت الجامعات خططًا لربط البحث العلمي بقضايا الاستدامة.
6. تطوير منظومة التدريب الفني (TEVT) وربطها بالقطاع الصناعي.
7. تطوير المناهج وبناء الإنسان :بدأت مصر تنفيذ مناهج جديدة تعتمد على الفهم ومهارات القرن الحادي والعشرين، مع دمج مفاهيم البيئة والتغير المناخي وريادة الأعمال.
هذه التحركات رغم التحديات تعكس انتقال مصر من مرحلة "التخطيط" إلى مرحلة "التنفيذ التدريجي" لاستدامة التعليم.
استدامة التعليم في الوطن العربي… واقع متحرك
يشهد العالم العربي تحولًا تدريجيًا نحو التعليم المستدام، خصوصًا في:
• الإمارات: ريادة الذكاء الاصطناعي في التعليم، وبرامج المدارس الخضراء.
• السعودية: تطوير شامل ضمن رؤية 2030، وبرامج تعليم مهارات المستقبل.
• قطر: دعم الابتكار والبحث العلمي، وربط التعليم بالاقتصاد المعرفي.
• المغرب: تطوير المناهج وربطها بالهوية والمهارات الرقمية.
• الأردن: تقدم ملحوظ في التعليم الرقمي والتعلم عن بعد.
التوجه العالمي… كيف يتحرك العالم نحو التعليم المستدام؟
على مستوى العالم، ترتبط استدامة التعليم بـ الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة: ضمان تعليم جيد، منصف، وشامل للجميع وتعزيز فرص التعلم مدى الحياة.
خطوات عالمية بارزة في هذا المسار:
1. فنلندا: نموذج عالمي في التعليم المبني على المهارات والابتكار.
2. سنغافورة: تطوير مستمر للمناهج وربطها بالاقتصاد الرقمي.
3. كوريا الجنوبية: نموذج في دمج التكنولوجيا وتدريب المعلمين.
4. كندا وألمانيا: تعزيز التعليم المهني وربطه بسوق العمل.
5. اليابان: التركيز على قيم الانضباط والابتكار معًا.
6. اليونسكو : تدعم برامج التعليم من أجل التنمية المستدامة.
هذه التجارب تؤكد أن التعليم المستدام ليس نموذجًا واحدًا، بل مسارًا يتكيف مع خصوصية كل دولة.
التحديات.... لماذا لا يزال الطريق طويلًا؟
1. الفجوة بين الخطط والتنفيذ.
2. ضعف تدريب المعلمين.
3. التفاوت في البنية التحتية الرقمية.
4. محدودية الوعي المجتمعي.
استدامة التعليم… الطريق إلى المستقبل
كيف نحقق استدامة التعليم؟
1. مدارس خضراء صديقة للبيئة
• استخدام الطاقة الشمسية.
• مساحات خضراء داخل المدارس.
• إعادة تدوير المخلفات.
2. تعزيز دور التكنولوجيا
• محتوى رقمي بدل الكتب الورقية.
• معامل حاسوب تعمل بالطاقة النظيفة.
3. تدريب مستمر للمعلمين
• برامج شهرية عبر الإنترنت.
• اعتماد "شهادة معلم مستدام".
4. شراكات مع المجتمع المدني
• مبادرات مجتمعية للبيئة.
• حملات توعية داخل القرى.
5. إنشاء مؤشر وطني لقياس استدامة التعليم
• نسبة المدارس الخضراء.
• نسبة المناهج المحتوية على مفاهيم بيئية.
• نسبة المعلمين المدرَّبين.
التعليم المستدام… معركة المستقبل تستوجب الانتصار
إن استدامة التعليم ليست مجرد مشروع حكومي أو هدف أكاديمي… وليست مشروعًا جانبيًا نؤجّله حين تتوفر الظروف، بل هي المعركة الحقيقية التي ستحدد شكل المستقبل، وموقع الدول على خريطة القوة والضعف. ففي عالم تتغير ملامحه كل يوم، لم يعد البقاء للأكثر امتلاكًا للموارد، بل للأكثر قدرة على إنتاج المعرفة، وتوظيفها، وتحويلها إلى قوة تنموية واقتصادية وأخلاقية.
ومصر بخطواتها الجادة ضمن رؤية 2030 تمتلك الأساس الذي يسمح لها بأن تكون رائدة في هذا المجال داخل المنطقة العربية.
فالاستثمار في تعليم مستدام هو الاستثمار الحقيقي في الإنسان… والإنسان هو الثروة الأكبر لأي دولة.
تقف مصر والعالم العربي أمام لحظة تاريخية لا تحتمل التأجيل: إما أن ننتصر للتعليم، أو نخسر المستقبل كله.
إن بناء تعليم مستدام ليس مسؤولية الحكومات وحدها، بل مسؤولية مجتمع كامل…
مسؤولية معلم يرى في مهنته رسالة، وطالب يدرك أن التعلم رحلة لا تنتهي، ومؤسسة تؤمن بأن المعرفة أهم رأس مال، وأسرة توقن أن التعليم هو الميراث الحقيقي لأبنائها.
إننا لا نملك رفاهية التراجع أو الانتظار؛ فالعالم يسير بسرعة الضوء، ومن يتردد سيجد نفسه خارج السباق.
ولهذا، فإن تبنّي استدامة التعليم فكرًا وتطبيقًا ليس خيارًا إصلاحيًا، بل خيار وجودي يمس هوية الأمة، ومكانتها، وقدرتها على المنافسة، وصناعة أجيال تملك الوعي والمهارة والقوة.
لقد حان الوقت لنعلنها بوضوح
التعليم المستدام ليس حلمًا… بل مصيرًا يجب أن نصنعه الآن، قبل أن يصنعه غيرنا ويتركنا في الخلف.
الكاتبة باحثة فى مجال التنمية المستدامة
وأمين أمانة التنمية المستدامة والبيئة حزب الجبهة الوطنية

