بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

المستشار محمد سليم يكتب : حين يتحوّل الإعلام إلى عبء وفوضى

المستشار محمد سليم
-

لم يكن الإعلام في يومٍ من الأيام مجرد مساحة للترفيه أو صناعة الضجيج، بل كان أحد أهم أدوات بناء الوعي الوطني، يعتمد على الرموز السياسية والفكرية والثقافية، ويقدّم محتوى هادفًا يسهم في تشكيل الرأي العام ويحترم عقل المواطن. كان الإعلام شريكًا في صناعة الدولة، وحارسًا للقيم، ومنبرًا للعقل قبل أن يكون منصة للصوت العالي.
لكن المشهد تغيّر، وتبدّل الدور، وتراجعت الرسالة. لم يعد السؤال المطروح: ماذا نضيف؟ بل أصبح: ماذا يُشعل «الترند»؟ وهنا بدأ الانحدار. تحوّل الإعلام من وسيلة توعية إلى ساحة مفتوحة لتصدير التافهين، والبحث عن الإثارة الرخيصة، ولو على حساب الذوق العام والقيم المجتمعية.
أصبحت الشهرة تُمنح بلا معايير، وتُصنع النجومية من العدم، وارتفعت أصوات لا تحمل فكرًا ولا قيمة، بينما جرى تهميش الكفاءات والرموز الحقيقية. ومع الوقت، استُبدلت الرسالة بالضوضاء، والعمق بالجدل الفارغ، وتحول المحتوى إلى سباق محموم على عدد المشاهدات، لا على التأثير الإيجابي.
هذا التحول لم يمر دون ثمن. فقد بدأ الذوق العام في التآكل، واختلطت المفاهيم، وصار الخطأ مألوفًا، والاحترام مادة للسخرية، والالتزام بالقيم تهمة بالرجعية. ومع تكرار هذا النمط، اعتاد المجتمع على مستوى متدنٍ من الخطاب، وفقد قدرته على التمييز بين ما يستحق وما لا يستحق.
ولم يتوقف الأمر عند الإعلام فقط، بل امتد إلى الفن والرياضة والحياة العامة. فبدلًا من تقديم قدوات حقيقية، جرى تصدير نماذج هشة، لا تحمل رسالة ولا مسؤولية، ما ساهم في خلق حالة من الفوضى الفكرية، وجعل الأجيال الجديدة أكثر عرضة للتشوش وفقدان البوصلة.
والأخطر أن هذا الواقع يُسهم في تفريغ الهوية المصرية من مضمونها، تلك الهوية التي تشكّلت عبر تاريخ طويل من الاعتدال والوعي والانتماء. فالإعلام حين يفقد بوصلته، لا يصبح مجرد عبء، بل يتحول إلى أداة هدم ناعمة، تعمل بلا ضجيج، لكنها تترك أثرًا عميقًا.
المواجهة لا تكون بالصمت ولا بالتجاهل، بل بإعادة الاعتبار لدور الإعلام الوطني المسؤول، الذي يرفع من قيمة الكلمة، ويحترم عقل المواطن، ويعيد تقديم الرموز الحقيقية، ويواجه الفوضى بالمحتوى، لا بالمنع. فالإعلام القوي ليس هو الأعلى صوتًا، بل الأصدق رسالة.
إن إنقاذ الإعلام من الفوضى هو إنقاذ للوعي، وحماية للهوية، ودفاع عن المجتمع نفسه. لأن الأمة التي تفرّط في وعيها، تفتح الباب واسعًا أمام كل أشكال العبث.