المستشار محمد سليم يكتب: الثبات فى مواجهة الخوف

في لحظات الاضطراب الكبرى حين يعلو صوت التهديد ويتحول التخويف إلى منهج، يقف الإنسان أمام اختبار حقيقي لمعنى الإيمان، هل يثق فيما تراه العين وتحسبه العقول أم يطمئن إلى ما لا يُرى وتستقر به القلوب، هنا لا يكون الخوف مجرد إحساس عابر بل معركة داخلية بين يقينٍ يتجذر في القلب وقلقٍ يحاول اقتلاعه، وفي هذا المفترق الحاسم ، يأتينا القرآن لا ليحكي قصة ماضية بل ليمنح الحاضر بوصلة النجاة ومعنى الثبات، حيث قال تعالى في آيات الذكر الحكيم " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم " ، لم يكن القول خبرًا بريئًا بل كان اختبارًا للإيمان ومحاولة لزرع الخوف في القلوب وهز اليقين في لحظة فارقة بين الاعتماد على الأسباب والاعتماد على رب الأسباب وهنا لا يكون الخوف من الناس في ذاته بل من الفكرة التي يريدون زرعها أنك وحدك وأن القوة كلها في يد غيرك وأن المصير مرهون ببطش البشر
وهنا تتجلى عبقرية القرآن، كما كان يشرحها الشيخ متولي الشعراوي رحمه الله فالله، لا يحكي لنا الحدث ليخيفنا بل ليعلّمنا كيف ننتصر، فحين قالوا لهم فاخشوهم لم يزدهم ذلك إلا إيمانًا ،وكأن الخوف حين طرق القلب لم يجد له مكانًا لأن القلب كان ممتلئًا بالله فالقلوب الممتلئة لا تعرف الهلع والنفوس العامرة باليقين لا تهتز
ويتردد هنا صوت ،الدكتور مصطفى محمود بعقله المتأمل وإيمانه العميق ليؤكد أن الخوف الحقيقي ليس من الناس بل من نسيان الله ،لأنك إذا نسيت الله ضعت في متاهة الحسابات وعددت القوى وقست الاحتمالات ،أما إذا قلت من أعماقك حسبنا الله ونعم الوكيل، فقد سلّمت أمرك لمن لا تخطئ قدرته ولا تخيب حكمته
حسبنا الله ليست جملة تقال عند العجز، بل إعلان كفاية ونعم الوكيل ليست استسلامًا بل ثقة كاملة فيمن يتولى الأمر فالوكيل هو من يتصرف عنك فيما لا تحسن أنت التصرف فيه وهل نحن أحسن تدبيرًا من الله أو أدرى بمآلات الأمور.
ثم تأتي النتيجة منطقية في ميزان السماء فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء لم تكن مجرد نجاة بل زيادة في الإيمان وترقية في اليقين وكأنهم خرجوا من المحنة أغنى مما دخلوها لأن من يتوكل على الله لا يعود خالي الوفاض.
واتبعوا رضوان الله وهنا الفرق بين من يطلب السلامة ومن يطلب الرضا فطالب السلامة قد يهرب أما طالب الرضا فيثبت لأن الرضا موقف قبل أن يكون نتيجة ومن سار خلف رضوان الله تكفل الله بعاقبته
وتأتي الخاتمة الحاسمة والله ذو فضل عظيم فضل لا يقاس بالأرقام ولا يحصى بالمكاسب فضل يشمل الطمأنينة قبل الفرج والسكينة وسط العاصفة واليقين قبل النتائج فضل يجعل الخوف إيمانًا والقلق طمأنينة والتهديد منحة
وفي ختام هذا المعنى القرآني العميق تتعدد الرسائل لمن أراد أن يتعظ، أولها أن الخوف حين يُدار بعقل الإيمان يتحول إلى طاقة ثبات لا إلى سبب انهيار، وأن من يهوّلون لك قوة البشر إنما ينسونك عمدًا قوة رب البشر، ورسالة ثانية أن كثرة الحسابات لا تصنع الطمأنينة بل تصنع القلق بينما كلمة واحدة صادقة من القلب "حسبنا الله ونعم الوكيل" قد تهزم ألف حساب وألف احتمال
والرسالة الثالثة أن الثبات ليس عنادًا ولا تهورًا ، بل موقف إيماني واعٍ يعرف متى يأخذ بالأسباب ومتى يسلّم النتائج لله، وأن من امتلأ قلبه باليقين لا تهزه الشائعات ولا ترعبه التجمعات ولا تكسره لغة التهديد، ورسالة رابعة أن الرضا عن الله طريق آمن مهما كانت العواصف وأن من سار خلف رضوان الله لم يخذله الله أبدًا
أما الرسالة الأهم فهي أن هذه الآيات ليست للتلاوة فقط بل للعمل وأن كل زمان فيه من يقول للناس "إن الناس قد جمعوا لكم" وكل زمان فيه من يختار بين الخوف والإيمان، فمن اختار الخوف عاش قلقًا ومن اختار اليقين عاش مطمئنًا ولو اشتدت المحن
وتبقى الحقيقة الخالدة أن من جعل الله حسبه كفاه ومن فوّض أمره لله تولاه ومن وثق في فضل الله العظيم لم يخرج من أي ابتلاء إلا وقد خرج أقوى وأهدأ وأكثر يقينًا، وهنا يتعظ من أراد العظة ويفهم من أراد الفهم ويطمئن من اختار أن يكون مع الله لا مع الخوف.

