بوابة الدولة
بوابة الدولة الاخبارية

تحذير لا يحتمل التأجيل

الزواج المبكر… جريمة صامتة تحت غطاء العادات

صورة ارشيفية
دعاء همام -

ما يحدث في الخفاء أخطر مما يُرى في العلن، فالزواج المبكر لم يعد مجرد ظاهرة اجتماعية عابرة، بل خطر حقيقي يهدد الطفولة ويقوّض مستقبل أجيال كاملة، جريمة تُرتكب تحت غطاء العادات والتقاليد، بينما تدفع الفتيات الثمن أعمارًا مسروقة وأحلامًا مؤجلة، ورغم القوانين الصارمة والتحذيرات الطبية والدينية المتكررة، ما زالت هذه الممارسة مستمرة، تنمو في الصمت، وتتغذى على الخوف والجهل، لتتحول إلى قنبلة اجتماعية موقوتة تستدعي وقفة حاسمة قبل فوات الأوان.
ورغم أن قانون الطفل المصري حدد سن الزواج بـ18 عامًا وجرّم أي زواج يتم قبل هذا السن، إلا أن الفجوة بين النص القانوني والتطبيق على أرض الواقع ما زالت واضحة، خاصة في بعض محافظات الصعيد والريف، التي تسجل النسب الأعلى لزواج القاصرات، مع انتشار الزواج العرفي كوسيلة للتحايل على القانون بعيدًا عن أعين الرقابة الرسمية.
وتحت غطاء العادات تُرتكب الجريمة في صمت، حيث يُنظر إلى الزواج المبكر في كثير من القرى باعتباره “سترًا للبنت”، أو حلًا للخوف من العنوسة، أو وسيلة لتخفيف العبء المادي عن الأسرة، وهي مبررات اجتماعية تحولت بمرور الوقت إلى غطاء لانتهاك صارخ لحقوق الطفولة، وإهدار متعمد لفرص التعليم والحياة الكريمة.
وتقول إحدى الأمهات في شهادة تعكس حجم الأزمة: «إحنا كده متعودين، كل البنات بتتجوز بدري»، عبارة تختصر مأساة حقيقية، حيث تتحول العادات إلى سلطة أعلى من القانون، وتُفرض على الفتيات قرارات مصيرية دون إرادة أو وعي.
وفي شهادة إنسانية موجعة، تروي طفلة تبلغ من العمر 15 عامًا، فضلت عدم ذكر اسمها الحقيقي، قائلة: «سيبت المدرسة واتجوزت، ما كانش ليا رأي»، طفلة انتُزعت من مقعد الدراسة ودُفعت قسرًا إلى عالم من المسؤوليات النفسية والجسدية التي تفوق عمرها، لتواجه حملًا مبكرًا وضغوطًا أسرية واجتماعية لا ترحم.
ويؤكد أطباء ومتخصصون أن الزواج المبكر يؤدي إلى ارتفاع مخاطر الحمل والولادة، وزيادة نسب الاكتئاب والعنف الأسري، إلى جانب أضرار نفسية طويلة المدى، تمتد آثارها لسنوات، وتنعكس سلبًا على صحة الأم والطفل معًا، فضلًا عن ارتفاع نسب التسرب من التعليم وفقدان فرص التمكين الاقتصادي.
ومن الناحية القانونية، أوضح خبير قانوني أن أي زواج يتم قبل سن 18 يُعد جريمة مكتملة الأركان يعاقب عليها القانون، سواء كان الزواج رسميًا أو عرفيًا، مشيرًا إلى أن المسؤولية تقع على ولي الأمر والمأذون والزوج، إلا أن ضعف الإبلاغ والخوف من الوصم المجتمعي يمنعان كثيرًا من القضايا من الوصول إلى ساحات العدالة.
وعلى الصعيد الديني، أكد رجال دين أن الإسلام لم يحدد سنًا رقميًا للزواج، لكنه اشترط النضج والقدرة والرضا، وهي شروط لا تتوافر في طفلة لم تكتمل نفسيًا أو جسديًا، مشددين على أن استخدام الدين لتبرير الزواج المبكر يُعد فهمًا مغلوطًا للنصوص، وتحريفًا لمقاصدها التي تقوم على الرحمة وحفظ النفس والكرامة الإنسانية.
وفي مواجهة هذه الظاهرة، اتخذت الدولة المصرية خطوات مهمة، من خلال تشديد العقوبات القانونية، وإطلاق حملات توعية، ودعم دور المجلس القومي للطفولة والأمومة، إلا أن الواقع يؤكد أن المواجهة ما زالت تحتاج إلى تكثيف التوعية داخل القرى والنجوع، ودور إعلامي أقوى وأكثر تأثيرًا، إلى جانب تمكين الفتيات بالتعليم والعمل باعتبارهما خط الدفاع الأول ضد هذه الجريمة.
ويبقى السؤال المطروح بإلحاح: لماذا يستمر الزواج المبكر؟ لأنه يُمارس في صمت، وتحيط به ثقافة مجتمعية متواطئة، والضحية لا تملك حق الاعتراض، فالصمت هنا ليس حيادًا، بل مشاركة غير مباشرة في الجريمة.
ختامًا،
الزواج المبكر ليس عادة، ولا شرفًا، ولا حلًا للفقر، بل جريمة صامتة تحتاج إلى صوت إعلامي شجاع، ووعي مجتمعي حقيقي، وتطبيق حاسم للقانون، فالطفولة لا تُسترد بعد ضياعها، والمستقبل لا يُبنى على حساب البراءة.
احموا الطفولة… قبل أن تتحول العادات إلى أحكام مؤبدة على حياة كاملة