في ذكرى ميلادها 29 ديسمبر… محسنة توفيق «بهية» التي جسّدت الوطن موقفًا وفنًا ( صور )

تمرغداُ الاثنين ذكرى ميلاد الفنانة المصرية القديرة محسنة توفيق، إحدى العلامات المضيئة في تاريخ السينما والمسرح والدراما المصرية، والتي لم تكن مجرد ممثلة موهوبة، بل نموذجًا نادرًا لفنانة آمنت بأن الفن موقف، وأن الكرامة لا تنفصل عن الإبداع، فخلّدت اسمها في وجدان المصريين بدور «بهية» الذي تحول إلى رمز للوطن نفسه.
وُلدت محسنة توفيق في 29 ديسمبر عام 1939، ونشأت في أسرة مثقفة، فهي شقيقة الإعلامية الشهيرة فضيلة توفيق (أبلة فضيلة)، ما أسهم في تكوين وعي مبكر لديها بقيمة الكلمة ودور الثقافة في تشكيل الوجدان. التحقت بكلية الزراعة، وهناك بدأت تتشكل شخصيتها المستقلة، وتتعرف على قضايا المجتمع مبكرًا، قبل أن تتجه إلى عالم الفن في مطلع الستينيات.
بدأت مشوارها الفني عام 1962، وشاركت في عدد من الأعمال التي كشفت عن موهبة خاصة، تعتمد على الصدق والعمق لا الاستعراض. إلا أن الانطلاقة الحقيقية جاءت مع المخرج الكبير يوسف شاهين، حين أسند إليها دور «بهية» في فيلم العصفور (1970)، وهو الدور الذي منحها الخلود، وجعلها أيقونة وطنية، جسدت من خلاله مصر الجريحة الصامدة، المرأة التي تنكسر لكنها لا تُهزم.
تحولت «بهية» من شخصية سينمائية إلى رمز وطني، وأصبحت محسنة توفيق مرتبطة في الوعي الجمعي بصورة الوطن، الصابر والمقاوم. ولم يكن ذلك مصادفة، بل انعكاسًا حقيقيًا لقناعاتها السياسية والإنسانية، التي لم تُخفها يومًا، ولم تتخلَّ عنها رغم ما دفعته من أثمان.
قدمت محسنة توفيق خلال مشوارها عددًا من الأعمال المهمة، من بينها: «إسكندرية ليه»، «وداعًا بونابرت»، إلى جانب مشاركاتها المسرحية والتلفزيونية، وكان من أبرز أعمالها الدرامية مشاركتها في مسلسل «ليالي الحلمية»، حيث حافظت دائمًا على اختيار أدوار تعكس قيمة فنية وإنسانية.
وعلى المستوى الشخصي، عاشت محسنة توفيق حياة هادئة بعيدة عن الأضواء. تزوجت مرة واحدة فقط من أحمد خليل صبح (وهو غير الفنان أحمد خليل)، وكان زوجها الوحيد طوال حياتها، وتعرفت عليه في بداياتها فور التحاقها بكلية الزراعة، أنجبت منه ابنها وائل وابنتها عزة، وكانت دائمًا حريصة على الفصل بين حياتها الأسرية ومسيرتها الفنية، وقد توفي زوجها قبل رحيلها بعدة سنوات، وظلت وفية لذكراه حتى النهاية.
سياسيًا، عُرفت محسنة توفيق بمواقفها الوطنية الصريحة. تأثرت منذ طفولتها بحادثة كوبري عباس عام 1946 ونضال الطلبة، ورغم أنها كانت في السابعة من عمرها آنذاك، فإن المشهد ظل محفورًا في ذاكرتها، ودفعها إلى التساؤل الدائم عن أسباب الظلم والقمع. هذا الوعي المبكر انعكس لاحقًا على اختياراتها ومواقفها.
تعرضت للاعتقال في إحدى مراحل حياتها، ولم تتراجع عن قناعاتها، بل أعلنت صراحة أنها استُبعدت من بعض الأعمال الفنية بسبب مواقفها السياسية، وقالت في إحدى الندوات طُلب مني تغيير مواقفي السياسية، لكنني لم أفعل».
كما امتد حضورها وموقفها حتى ثورة 25 يناير 2011، حيث ظلت مؤمنة بحق الشعوب في الحرية والعدالة، وفي آخر تكريم لها خلال مهرجان أسوان الدولي، ألقت كلمات مؤثرة قالت فيها، الأفراد يصنعون النجاح، لكن التاريخ تكتبه الشعوب المؤمنة بوطنها، المصريون قادرون على صنع المستحيل».
وفي 7 مايو 2019، رحلت محسنة توفيق عن عالمنا بعد صراع مع المرض، وأعلن المنتج محمد العدل خبر وفاتها قائلاً: «رحلت بهية». ورغم القيمة الكبيرة لمسيرتها، شهدت جنازتها غيابًا لافتًا لنجوم الوسط الفني، في مقابل حضور واضح للمثقفين والسياسيين، في مشهد يعكس حقيقتها كفنانة تجاوزت الفن إلى الوجدان الوطني.
في ذكرى ميلادها، تبقى محسنة توفيق مثالًا للفنانة التي لم تساوم، ولم تفصل بين الفن والموقف، لتظل «بهية» حاضرة… رمزًا لمصر، وضميرًا لا يغيب.









