الشيخ محمد السيد متولى يكتب : التيسير عنوان هذه الأمة

الأصل في الشريعة الإسلامية السماحة واليسر والإعتدال والإقتصاد والسهولة فى المعاملات ورفع الحرج ، لذلك نجد دائرة الحرام مغلقة ، فلو مثلاً دققنا النظر في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبى صلى الله عليه وسلم التى تتحدث عن المحرمات نجد أنها محدودة ليست بالصورة المنتشرة لأن الأصل فى الأشياء الإباحة حتى يدل الدليل على التحريم ، من هنا نعرف جيداً أن الأصل الأصيل فى شريعتنا اليسر لا العسر السماحة لا الشدة ، قال تعالى ( وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ۚ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ ۚ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ ) سورة الحج (٧٨)
والمتأمل في آيات الأحكام والفرائض في القرآن الكريم يجد أن الله تبارك وتعالى بعد كل آية ذكر فيها فرضية أى عبادة يذكر فيها الرُّخَص التى ترفع الحرج عن المكلَّف ، فمثلاً
الحق تبارك وتعالى ذكر لنا آية فرضية الصيام تفصيلاً في القرآن الكريم ثم ذكر لنا الرُّخص بالنسبة للمعذورين عن آداء هذه الفريضة كالمريض والمسافر والحامل والمرضع والشيخ الكبير .
قال تعالى ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (١٨٣) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ ۚ فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۚ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ ۖ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ ۚ وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ ۖ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (١٨٤) شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ ۚ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ ۖ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ۗ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٨٤) سورة البقرة .
فيذكر الفريضة ثم يذكر رخصتها
الشاهد قوله تعالى ( يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ) سورة البقرة (١٨٤)
ولقد كان النبى صلى الله عليه وسلم سهلا سمحا لينا هينا فى تعامله مع الناس حتى في كلامه معهم من ناحية الأمر والنهي والإرشاد والمواقف أكثر من أن تحصى وتُعد.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، قَالَ : قَامَ أَعْرَابِيٌّ فَبَالَ فِي الْمَسْجِدِ فَتَنَاوَلَهُ النَّاسُ ، فَقَالَ لَهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " دَعُوهُ وَهَرِيقُوا عَلَى بَوْلِهِ سَجْلًا مِنْ مَاءٍ أَوْ ذَنُوبًا مِنْ مَاءٍ ، فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ " رواه البخاري .
انظر كيف تعامل النبى صلى الله عليه وسلم مع هذا الأعرابي ، بل فى رواية أخرى قالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ : دعوهُ لا تُزرِموهُ . فلمَّا فرغَ ، دعا بدلوٍ فصبَّهُ علَيهِ) رواه النسائي ، أى لا تضيعوا عليه بولته اتركوه حتى يفرغ من حبسة بوله ، هنا غرس النبى صلى الله عليه وسلم مبادىء الرحمة والإنسانية والسماحة فى قلوب الأمة بقوله ( فَإِنَّمَا بُعِثْتُمْ مُيَسِّرِينَ وَلَمْ تُبْعَثُوا مُعَسِّرِينَ )
حتى فى البيع والشراء وكل المعاملات نجد أن الأصل الأصيل فيها السماحة واليسر والإعتدال .
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا ، إِذَا بَاعَ ، وَإِذَا اشْتَرَى ، وَإِذَا اقْتَضَى " رواه البخاري .
حتى في قضية النفقة الأصل فيها الإعتدال والإقتصاد قال تعالى ( لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ ۖ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ ۚ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا ۚ سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧) سورة الطلاق.
فهذا دليل واضح يدل على قدر طاقتك اعزم وقدر نفقتك أنفق .
عَنْ أَنَسِ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا ، وَبَشِّرُوا وَلَا تُنَفِّرُوا " رواه البخاري ومسلم .
فلم يكلفك الله تعالى فوق طاقتك ولم يفرض عليك فريضة بعينها تحمل مشقة لك ولو كانت كذلك فإن الرخصة تلاحقها فلو أخذت بالرخصة كفتك بل ويكتب لك أجر هذه العبادة .
عن أبى موسى الأشعرى قال : قَالَ رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا " رواه البخاري .
وهذا من رحمة الله تعالى بنا أنه يكتب لنا أجر العبادة رغم أنها لم تُؤَدَّى إلا أن الرخصة كافية بأجر هذه العبادة كاملاً .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وبارك ( إنَّ اللهَ يُحبُّ أن تُؤتَى رُخَصُه ، كما يُحبُّ أن تُؤتَى عزائمُه ) رواه البزار وابن حبان والطبرانى .
ثم بين النبي صلى الله عليه وسلم لنا أساسيات وقواعد هذا الدين فى أحاديث كثيرة منها : عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَ : " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ ، وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ ، فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا وَاسْتَعِينُوا بِالْغَدْوَةِ وَالرَّوْحَةِ وَشَيْءٍ مِنَ الدُّلْجَةِ " رواه البخاري .
فكل واحد منا يعرف أن الشريعة الإسلامية سمحة ويسيرة والمنهج الإسلامى معتدل والأمة المحمدية أمة وسطا لها الأفضلية والخيرية دون سائر الأمم .
عَنْ بَهْزِ بْنِ حَكِيمٍ , عَنْ أَبِيهِ , عَنْ جَدِّهِ , قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ , يَقُولُ : " إِنَّكُمْ وَفَّيْتُمْ سَبْعِينَ أُمَّةً , أَنْتُمْ خَيْرُهَا وَأَكْرَمُهَا عَلَى اللَّهِ " رواه ابن ماجه وغيره .
وقال الله تعالى فى شأن هذه الأمة ( كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم ۚ مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠) سورة آل عمران .
وبين لنا الحق تعالى أن بسبب هذه الخيرية التى نالتها أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جعلها الله أمة وسطا حتى فى يوم القيامة لن تفقد هذه الخيرية والأفضلية .
قال تعالى ( وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ ) سورة البقرة (١٤٣)
فبعد هذه الأدلة وهذه النصوص التى حثت على اليسر والإعتدال والسماحة هل يحق لأحد أن يشدد ويُغالى ويصعب المسائل ويضيق الأمور ؟!
لا لأن أساس الشريعة الإسلامية بُنى على السماحة واليسر والإعتدال فكيف لتطبيق الشريعة أن يُبنى على الشدة والصعوبة والمغالاة ؟!
قال سفيان الثوري رحمه الله:
”إنما العلم عندنا الرخصة من ثقة، فأما التشديد فيحسنه كل أحد“ .
فعلى كل واحد منا أن يتأسى بالنبي صلى الله عليه وسلم فى معاملته وفى خلقه وفى شأنه كله ويعلم يقينا أن الله تعالى لم يكلفنا فوق طاقتنا ولم يشق علينا بل إن الله تعالى قال ( فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنفِقُوا خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ ۗ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٦) سورة التغابن .
وعن أبى هريرة رضي الله عنه وأرضاه أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( دَعُونِي ما تَرَكْتُكُمْ، إنَّما هَلَكَ مَن كانَ قَبْلَكُمْ بِسُؤَالِهِمْ وَاخْتِلَافِهِمْ علَى أَنْبِيَائِهِمْ، فَإِذَا نَهَيْتُكُمْ عن شيءٍ فَاجْتَنِبُوهُ، وإذَا أَمَرْتُكُمْ بِأَمْرٍ فَأْتُوا منه ما اسْتَطَعْتُمْ. ) رواه البخاري ومسلم .
فالعاقل هو من يأخذ بالرُّخَص ولا يشق على نفسه ولا يحملها فوق طاقتها لأن الله تعالى أراد لها غير ذلك . فالتيسير عنوان هذه الأمة .
الكاتب :
إمام وخطيب قادة فكر بوزارة الأوقاف
وعضو لجنة الدعوة الإسلامية بمحافظة الشرقية .