الكاتب الصحفى صالح شلبى يكتب : وجوه من نار.. وحساب لا يُمهل”

في زمنٍ تحوّلت فيه الأخلاق إلى شعارات، والنية الطيبة إلى تهمة، أصبحنا نعيش وسط مجتمعات تتفنن في إطلاق الأحكام، وتوزيع الصفات، وتلصيق التهم دون دليل أو حياء. لكن ما يدعو للسخرية الحزينة، أن هذه "الأحكام" كثيرًا ما تكون انعكاسًا مباشرًا لأصحابها، لا لمن تُلقى عليهم.
الناس – أو لنقل البعض منهم – لا يرونك كما أنت، بل يرونك كما هم. فإن كان فيهم الخبث، ظنوك ماكرًا. وإن كانوا كذابين، حسبوك منافقًا. وإن كانوا معتادين على الخيانة، شكّوا في كل إخلاص. لأن "عين الطبع" لا ترى الحقيقة، بل ترى ما أُلِفت عليه. وهنا جوهر الأزمة الأخلاقية التي نخوضها اليوم.
لقد أدركت متأخرًا، وهذا من حسن الحظ لا من سوئه، أن الرد على الخطأ بمثله لا يزيد الأمور إلا احتقانًا، ولا يزيدك إلا شبهًا بمن أخطأ في حقك. حين تواجه الإساءة بالإساءة، تصبح طرفًا في انحدار لا قاع له. ولهذا، اخترت أن أسكت... لا ضعفًا، بل وعيًا. لا هروبًا، بل نُبلًا.
فليقل من يشاء ما يشاء. وليفسروا الصمت على أهوائهم. لكن الحقيقة التي لا يدركها أغلب الناس، أن الصمت في وجه الإساءة ليس إذعانًا، بل استعلاء أخلاقيًّا. لأن من يراك بعين طبعه، لن تنفع معه التبريرات، ولا الشروحات، ولا الدفاع عن النفس. هو لا يبحث عن الحقيقة، بل يبحث عن صورة منك تُرضي عقده.
والأدهى من ذلك، أن هذا النموذج من الناس لا يتوقف عند حدود الشك أو الظن، بل يبني عليه قرارات ومواقف، ويحرّض الآخرين، ويخلق حولك هالة من الشبهات والتأويلات. وهنا تكمن خطورة أن تُحاكم بناءً على ظنون لا على أفعال.
لقد صار واضحًا: كثيرون لا يريدون الحقيقة، بل يؤمنون بما يوافق أمراضهم النفسية. وكلما ازداد إنسان وضوحًا ونقاءً، كلما أثار فيهم القلق، لأن وجوده يعرّي زيفهم. فلا عجب أن يُهاجم الصادق، ويُشيطن النقيّ، وتُكسر صورة الشريف، لأنهم ببساطة لا يحتملون ضوءه.
ومن هنا، أوجه رسالة لمن اعتادوا جلد الآخرين بتصوراتهم: راجعوا أنفسكم. لا أحد يرى النقاء إلا من عرفه، ولا يُحسن الظن إلا من طهرت سريرته. أما أنتم، فحين ترون القذارة في كل من حولكم، فتلك شهادة مريرة على ما في دواخلكم.
وفي نهاية هذا المقال، أقولها بمرارة لمن باع المعروف وخان العِشرة، لمن نكث العهد وطعن من أطعمَه، لمن تظاهر بالتقوى وهو في حقيقته خرابٌ داخلي: من خان العيش والملح فقد خان نفسه قبل أن يخون غيره، ومن خان دينه فلن يعرف للضمير طريقًا، ومن أشعل الفتن بين الناس فليعلم أنه أول من ستحرقه نيرانه، ومن فرّق بين الإخوة فلا مروءة له ولا ذمّة، ومن عاد من الحج والعمرة ولم يعد قلبه فقد طاف بجسده وترك روحه في ظلمة النفاق، تذكروا أن الله يعلم ما تخفون وما تعلنون، ويعلم من كان لله ومن كان للدنيا، فلا تخدعوا أنفسكم بحجٍ ولا مظهرٍ ولا صراخٍ باسم الدين، فإن كنتم تظنون أن تلك المسرحيات ستشفع لكم، فأنتم واهمون، وإن كنتم تأملون نجاة، فأنتم تحلمون، لأن من خان، وفتن، ونمّ، وكره الخير، وظلم، وحقد، وأفسد بين الناس، لن تروا الجنة ونعيمها، بل ستُدَحْدَفون إلى جهنم.