هزمت الإعاقة بالحديد.. نادية فكري ”بطلة” تتوهج ضد عقارب الزمن وأعباء الأمومة

في طفولتها، لم تكن نادية فكري تعرف شيئًا عن الحديد والأوزان، بل كانت تنسج أحلامها بخيوط الباليه وأجنحة المسرح، تتابع برنامج "تياترو" بعينين لامعتين، وتحلم بأن تكون يومًا سندريلا، أو بطلة "بحيرة البجع"، أو حتى "كسارة البندق"، لكن القدر كان له رأي آخر.
فجأة، دخلت الإعاقة حياتها دون استئذان، كظل باغت البراءة، وسلب الطفلة توازنها، لم تعد "نادية" تقف إلا على قدمٍ واحدة، تتكئ على الأمل، وتصارع الألم بجلسات علاج طبيعي لا تنتهي، فهربت من أوجاعها بتعلم السباحة، تحاول أن تطفو فوق واقعٍ أثقلها، لا أن
وفي دورة الألعاب الأفريقية مطلع التسعينيات، حينما غنّى فيه عمرو دياب "أفريقيا.. بالحب اتجمعنا"، خرجت نادية مكسورة الخاطر، كانت وقتها لا تزال طالبة في الثانوية العامة، مهمومة بالدراسة، وجريحة النفس في آن واحد، جلست تذاكر، وإذا بصوت في المذياع يبدّل مسار حياتها، فتاة تُدعى "فاتن حجازي" عادت من بطولة رفع الأثقال البارالمبية، لم تكن نادية قد سمعت من قبل بهذه الرياضة، لكن النور اشتعل داخلها.
ذهبت الفتاة التي رفضت أن تكون إعاقتها معرض للشفقة، إلى النادي القريب من منزلها، وهناك استقبلها المدرب، اختبرها، فرأت نفسها بطلة حقيقية ترفع 60 كجم من المرة الأولى، تقول إنها اختارت رفع الأثقال لأنها لعبة "ملموسة"، تبدو صلبة في ظاهرها، لكنها في باطنها امتحانٌ حقيقيٌ للعزيمة، وكانت نادية في أمسّ الحاجة إلى إثبات ذاتها، بعد أعوام من الانكسار النفسي والجسدي
وفي ميادين البطولة، لم تكن نادية فكري وحدها، فقد كان معها "رفيق الروح"، ففي أولمبياد سيدني 2000، بدأت شرارة الحب مع زميلها في البعثة، صلاح، وفي أولمبياد أثينا 2004، جمعهما الإنجاز الكبير، ميدالية فضية لها، وأخرى جماعية له مع فريق الكرة الطائرة جلوس، ثم توّجت القصة بالزواج.
لكن الأمومة طرقت بابها في لحظة مفصلية، اضطرت إلى الغياب عن بطولة العالم 2006 من أجل رعاية طفلها الرضيع، ثم، حين كبر "محمد"، عادت نادية لتلحق بركب الأولمبياد في بكين 2008، حيث أحرزت الميدالية البرونزية، ومرة أخرى، لم تستطع المشاركة في أولمبياد لندن 2012 بسبب إنجابها طفلها الثاني، إياد، ثم جاءت الضربة الكبرى في عام 2015، حين توفيت والدتها، وكانت هي الأم التي حملت عنها أعباء الإعاقة، وساندتها في كل لحظة.
في لحظة الوداع، كانت نادية في معسكر، وزوجها في بطولة خارج مصر. وبين الغياب والحزن، اهتزت الأرض تحت قدميها، كان والدها قد تركها طفلة، والآن رحلت أمها، فشعرت أنها تُقتلع من جذورها.
وهنا، اتخذ زوجها قرارًا غير مسبوق، قرر أن يتخلى عن أولمبياد ريو دي جانيرو 2016، ليرعى أولاده، ويتيح لها أن تكمل الطريق، لكن نادية عادت من البرازيل بدون ميدالية، بل بخيبة أملٍ ثقيلة، مرّت بها طوكيو، ولم تتأهل، وبقي الأمل معلقًا بين سماء الحلم، وأرض الواقع القاسي.
ثم جاءت باريس، بعد 16 عامًا من آخر تتويج في بكين، وفي عمر الـ50 عامًا، عادت نادية إلى المنصة، وسط تصفيق العالم، وقلوب فريقها الذي احتفى بها وكأنها ميداليتهم جميعًا، كيف لا! وتلك البطولة ومنذ أن كانت في الخامسة، تمشي بعكاز، أو تُحبس في جهاز يساعدها على الحركة، عرفت نادية معنى الألم، وتمرّست في الصبر، أمها كانت شريكتها في كل شيء، إخوتها كانوا دعمها، وزوجها ظلّها، وأبناؤها مصدر فخرها.. وفي كل لحظة كانت نادية على وشك التوقف، كانت تجد يدًا تمتد، وقلبًا يساند، ونفسًا تهمس لها "لا تستسلمي".