الكاتب الصحفى ممدوح عيد يكتب : ”رحلة الروح بين المناسك والشاشة: تأملات في زمن مزدحم”

في عالم تتسارع فيه الخُطى، وتضجّ فيه الشاشات بصخب الأخبار والتطبيقات، يصبح البحث عن السكون الروحي أشبه برحلة إلى عمق الذات، ومن أعظم تلك الرحلات، حجّ بيت الله الحرام، حيث تنقشع الضوضاء، وتتعرّى النفس أمام عظمة الخالق. الحج ليس فقط شعائر تُؤدى، بل تجربة وجودية تُعيد ترتيب الروح، وتُعلّمنا دروسًا نادرة عن الحياة، والرضا، والتسليم.
في عرفات، حيث يقف الملايين على صعيد واحد، تتلاشى الفوارق بين البشر. لا جنسية، لا طبقية، لا تفاخر. هناك، تسكنك لحظة تأمل صافية، تُذكّرك بأن الحياة مؤقتة، وأنك مجرد عابر في طريق طويل. تلك اللحظة تحديدًا لا يمكن لأي كاميرا أو شاشة أن تنقلها، لأنها تُحسّ ولا تُرى.
ووسط هذا الصفاء، تتسلل أسئلة عميقة:
لماذا نُجهد أنفسنا في صراعات يومية، في حين أن الحقيقة الكبرى هي أننا سنرحل؟ لماذا نؤجل الرضا، وكأننا نملك الغد؟ إن مشهد الحجيج في مزدلفة، وهم يفترشون الأرض، يبيتون دون تكلّف، يختزن معنى الرضا الحقيقي: أن تقبل بما قسمه الله لك، دون تذمر أو مقايضة.
ورغم كل هذه المعاني النبيلة، نجد أنفسنا بعد العودة إلى حياتنا اليومية، نغرق مجددًا في دوامة التكنولوجيا. نُقارن حياتنا بما نراه على الشاشات، وننسى أن لكل إنسان رحلته، ولكل قلب جروحه وصبره. إن الهواتف الذكية، رغم أنها تقرّب البعيد، إلا أنها في أحيان كثيرة، تُبعد القريب – تُبعدنا عن أنفسنا، عن لحظاتنا الخاصة، عن جلسة صفاء مع كتاب، أو تأمل في غروب.
لكن الحل لا يكمن في الهروب من التكنولوجيا، بل في إدارتها. أن نستعملها لا أن تستعملنا. أن تكون وسيلة للخير، لا وسيلة لتشتيت الروح. فكما أن الحج يحتاج إلى نية، كذلك الحياة الرقمية تحتاج إلى وعي. أن نعرف متى نغلق هواتفنا، ومتى نفتّش عن الله في صمت الدعاء، لا في ضجيج التنبيهات.
الصبر في هذا الزمن، لم يعد مجرد فضيلة، بل ضرورة. الصبر على المقارنات، على الانتظار، على الضغوط. والرضا لم يعد رفاهية، بل هو طوق نجاة من الغرق في الاستهلاك والمقارنات اللامتناهية. فكما نرجم الشيطان في منى، نحن بحاجة يومية لرجم وساوس الإحباط، وأوهام المثالية، وأصوات المقارنة السامة.
في النهاية، سواء كنت حاجًا واقفًا في عرفات، أو إنسانًا بسيطًا جالسًا أمام شاشة صغيرة، فإن الطريق إلى السلام يبدأ من الداخل. لا من الصور، ولا من الإنجازات، بل من صدق التوجّه، ونية العودة إلى الذات، إلى الله، إلى الرضا.
كاتب المقال الكاتب الصحفى ممدوح عيد مدير تحرير جريدة الجمهورية