الكاتب الصحفى صالح شلبى يكتب: قراءة هادئة في فيلم الست
منذ الإعلان الأول عن فيلم «الست» لم يكن الجدل مفاجئًا بقدر ما كان متوقعًا فأنت لا تقترب من شخصية مثل أم كلثوم دون أن تفتح أبواب المقارنة والحنين والغضب والدفاع وربما الخوف.
السيدة أم كلثوم ليست مجرد مطربة في الذاكرة العربية بل وجدان جمعي وصوت دولة ورمز ثقافي تشكّل عبر عقود وتحوّل إلى ما يشبه المقدس الفني، لهذا فإن أي محاولة لإعادة تجسيدها سينمائيًا ستُقابَل حتمًا بأسئلة قاسية هل نُعيد سرد التاريخ أم نُعيد تأويله هل نبحث عن الشبه أم عن الإحساس وهل يحق للفن أن يختلف مع الذاكرة.
رؤية مختلفة أم مسافة باردة
الانتقاد الأبرز الذي وُجّه إلى الفيلم لم يكن تقنيًا بقدر ما كان وجدانيًا فهناك من رأى أن العمل يُقدَّم من زاوية بعيدة -عدسة تراقب ظاهرة اسمها أم كلثوم لا إنسانة متورط فيها جمهورها عاش معها وبكى وفرح على صوتها هذا الفارق هو ما يمكن تسميته صراعًا بين رؤية معاصرة عقلانية ورؤية قديمة مشحونة بالعاطفة والانتماء بين من يسمع أم كلثوم كتراث موسيقي عالمي، ومن عاشها كصوت بيته وحارته وسهراته وأحزانه هنا تحديدًا وُلد الإحساس لدى قطاع من الجمهور بأن الفيلم جميل بصريًا لكنه بارد شعوريًا
الدقة التاريخية سؤال مشروع
جزء آخر من الجدل ارتبط بما اعتبره نقاد ومهتمون مغالطات تاريخية أو اختصارات درامية مربكة خاصة فيما يتعلق بمحطات معروفة في سيرة كوكب الشرق وعلاقاتها وتسلسل بعض الوقائع وهي ملاحظات لا يمكن تجاهلها خصوصًا عندما نتحدث عن شخصية موثقة عاصرها شهود أحياء وكتب عنها مؤرخون وفنانون كبار، غير أن السؤال الأهم هنا هل قدّم الفيلم نفسه بوصفه توثيقًا تاريخيًا صارمًا أم قراءة سينمائية تستخدم التاريخ مادة خامًا للدراما الخلط بين الأمرين هو ما فاقم حدة الهجوم.
محاولات سابقة والجمهور يقيّم الاختلاف
ليست منى زكي أول فنانة تحاول تجسيد شخصية أم كلثوم على الشاشة فقدمت الفنانة صابرين شخصية الست في مسلسل درامي من إخراج إنعام محمد علي كما أدت فردوس عبد الحميد دورها في فيلم من إخراج زوجها المخرج محمد فاضل مع استخدام صوت فردوس لأغاني الست فيما جسدت ياسمين رئيس الشخصية في فيلم إيراني باسم البحث عن أم كلثوم ،ورغم كل هذه المحاولات يرى كثيرون أن المسلسل الذي أخرجته إنعام محمد علي ، قبل أكثر من 30 سنة كان الأكثر قربًا من روح الست بينما بقيت جميع المحاولات الأخرى محل مقارنة مستمرة مع الشخصية الحقيقية ،هذا التاريخ من التجارب يوضح حجم التحدي أمام أي ممثلة جديدة ويضع فيلم «الست» في سياق استمرار محاولة تقديم رؤية سينمائية حديثة لشخصية أيقونية مع كل ما يصاحب ذلك من توقعات عالية وانتقادات محتملة.
محمد صبحي موقف واضح
أحد الأصوات التي أثارت اهتمام الجمهور هو الفنان محمد صبحي الذي عبّر عن موقفه بوضوح في برنامجه حضرة المواطن وقال أنا كممثل عندما يُعرض عليّ فيلم أو مسرحية قد تكون عظيمة وبارعة ولكنها مخالفة للحقيقة، لا يمكن أن أشارك فيها ،وأنا ألوم تلميذتي وحبيبتي منى زكي وأفتخر بها لكنها وقعت في مثل هذه الوقيعة الست أم كلثوم ، أنا اشتغلت وأنا في إعدادي أبيع التذاكر في شباك حفلاتها وكنت أشوف احترام الناس لها وهم جايين يشتروا التذاكر ،أم كلثوم طلعوا عليها إنها بخيلة ده مفيش أكرم من السيدة أم كلثوم .
حديث صبحي يعكس حساسية الجمهور والوسط الفني تجاه أي تحريف في صورة أم كلثوم ويؤكد أن التعامل مع أيقونة بهذا الحجم يتطلب دقة تاريخية ومهنية عالية.
منى زكي بين الجرأة وثقل الرمز
الحديث عن الفيلم لا ينفصل عن منى زكي التي خاضت واحدًا من أصعب تحدياتها الفنية فالمسألة لم تكن تشابه ملامح فقط ولا أداء صوتيًا بل محاولة الإمساك بروح امرأة يعرفها الجميع ،كلٌ بطريقته منى زكي نفسها لم تنكر صعوبة التجربة بل وصفتها بأنها الأصعب في مسيرتها مؤكدة أن احترامها للشخصية كان دافعها الأساسي وهنا يجب التفرقة بين عدم الاقتناع بالأداء وهو حق نقدي مشروع وبين الهجوم الشخصي أو المسبق الذي حذّر منه عدد كبير من الفنانين والنقاد.
دعم الوسط الفني ورفض المحاكمات المبكرة
في المقابل حظي الفيلم بدعم واسع من نجوم وصناع سينما رأوا أن الهجوم سبق المشاهدة وتحول من نقاش فني إلى معركة عاطفية على صورة في الذاكرة وأكد هؤلاء أن السينما ليست نسخة طبق الأصل من التاريخ بل فن تأويلي وأن تعدد الرؤى لا يعني بالضرورة الإساءة كما أن استقبال الفيلم بتصفيق طويل في عرضه العالمي الأول بمهرجان مراكش يشير إلى أن العمل يحمل قيمة فنية لا يمكن إنكارها حتى لو اختلفنا معها
في النهاية لماذا كل هذا الجدل ؟
الجدل الدائر حول فيلم «الست» ليس مفاجئًا بل هو نتيجة طبيعية لتاريخ لا يُنسى تركته كوكب الشرق أم كلثوم، تاريخ ما زال حاضرًا في الوجدان العربي والعالمي على حد سواء، وصوتها ووجودها الفني ما زالا يلمسان ثقافات متعددة في العالم، لذلك أي محاولة لإعادة تقديم شخصيتها على الشاشة تثير نقاشًا واسعًا وتوقعات عالية، وهو أمر متوقع لكل من يسعى لإعادة تفسير أيقونة بحجمها، خاصة وإن أي عمل عنها لا يُشاهَد فقط بل يُقاس على الذاكرة ولأن الجمهور العربي لا يزال يتعامل مع رموزه الفنية باعتبارها جزءًا من هويته لا مجرد مادة درامية.
فيلم «الست» قد لا يُرضي الجميع وقد يفتح أبوابًا أوسع للنقاش حول حدود الحرية الفنية عند الاقتراب من الرموز لكنه في حد ذاته تجربة جريئة تستحق أن تُناقَش بهدوء وأن تُشاهَد قبل إصدار الأحكام النهائية ما بين الطموح والانتقاد وبين الذاكرة والرؤية يبقى السؤال مفتوحًا هل نريد من السينما أن تُطمئن ذاكرتنا أم أن تهزّها قليلًا لتفتح بابًا جديدًا للفهم والإجابة يتركها «الست» لكل مشاهد.
























