الكاتب الصحفى مجدي سبلة يكتب:أهل كايرو.. (وأهل دمياط)

بالرغم من أنني لا أتفق ولا أروق لكاتب "رواية أهل كايرو" بلال فضل، مع الاحترام لزمالته لي لفترة محدودة في دار الهلال، لكنه أول من تناول في روايته "أهل كايرو" خلط المال بالسياسة والأحزاب والسلطة في 2010، واستلهم فكرة الرواية، وأُذيعت وقتها كمسلسل درامي في أواخر 2010، آخر عهد المرحوم حسني مبارك، عندما شاهد الكاتب أحمد عز وآخرين أصبحوا لاعبين رئيسيين في أكبر حزب وقتها، وهو الحزب الوطني.
إلا أنه مزج بين العمل الحزبي والسلطة ممثلة في الحكومة وقتها، لكن يبدو أن خيال الكاتب حينها كان خصبًا بدرجة كبيرة، لأننا بعد 15 عامًا نرى أمامنا هذا المزج واضحًا وضوح الشمس، بل وأصبح من المصوغات الأساسية لمقعد نيابي أو كقيادة حزبية من خلال أي حزب من الأحزاب التي تمثل نيابيًا.
ونحن نرى بأمهات أعيننا، حتى في الأمانات الفرعية لهذه الأحزاب في الأقاليم، وأصبح في أي إقليم لا مكان إلا لأصحاب الفلوس، وباتت الجملة الشهيرة حتى على لسان العامة: "لو معاك فلوس، من حقك مقعد".
ولو أن بلال فضل كان يعيش في دمياط مع عدد من المطورين ومحترفي "الأوفرات" وبعض المقاولين، لكتب "أهل دمياط" بدلًا من "أهل كايرو"؛ تلك الرواية التي جسدت وتغلغلت في علاقة العمل العام والحزبي بالأجهزة التنفيذية المحلية والحكومة، ممثلة في هيئة المجتمعات.
وبات أصحاب الفلوس هم من يحتكرون العمل الحزبي في إقليم مثل دمياط، وما يجري في هذا الملف يكفي لكتابة 100 رواية على طريقة "أهل كايرو".
لذا أصبح السؤال الذي نواجهه سؤالًا صعبًا: هل لم يعد هناك مكان للمثقف أو المتميز علميًا أو الكادر المتميز في الممارسة الحزبية؟
غالبًا نجد الإجابة: نعم، وذلك لتكلفة الإدارة الحزبية وما يصاحبها من عمل مجتمعي، وأيضًا نعم لأن الرقابة الحكومية داخل الحكومة لا تفصل حتى الآن بين عمل الجمعيات الأهلية والخيرية وعمل الأحزاب، فيما يسمى بالدعم المجتمعي.
والسؤال الثاني: هل سيكتفي العارفون بشؤون اللعبة من النخب بالاعتكاف؟ وعزوف أصحاب المؤهلات والأدوات والمعايير التي تمكنهم من الصفة النيابية؟ ومتى نرى إرادة الناخبين هي التي تتحكم في صناديق الانتخابات؟
أرى أن هذه المقالة مختلفة، وربما صادمة للبعض، لأنها انعكاس لواقع لم يكن بعيدًا عنا، بل يعيش فينا وبيننا، يُدار بصمت وتحت حماية من يسمّون بقيادات المجتمع المدني والأحزاب، ويشغلون مواقع في الحكومة سلفًا ويدركون كيف تُدار الأمور.
فمسلسل “أهل كايرو” لم يكن مجرد دراما بوليسية تبدأ بجريمة وتنتهي بكشف الجاني، بل كان عملًا نادرًا تجرأ على أن يقول الحقيقة بوضوح، ويشير - ولو رمزًا أو إيحاءً - إلى ما كان يجري خلف الكواليس في دهاليز الساسة والمجتمع وقتها.
فالمسلسل بدأ بقضية قتل راقصة أو فنانة، قد يراها البعض شخصية هامشية لا تستحق كل هذا الاهتمام، ولكن الحقيقة أن القصة لم تكن عنها بقدر ما كانت عمّن حولها من رجال وساسة وإعلاميين ورجال دين… وشخصيات من النخبة الفاسدة التي استخدمت السلطة والنفوذ لتُفسد وتُخفي جرائمها، وتقلب الطاولة على الضحية وكأنها هي الجاني.
ما كشفته رواية “أهل كايرو” كان مرآة لما حدث بالفعل في مصر في الفترة من 2005 إلى 2010، حين لم يكن هناك حرج في ارتكاب الفساد لفساده، ولم يكن هناك خوف من العقاب لكل من تورط فيه.
كان يُدار بذكاء شديد، حيث يتم استغلال الصغار كأدوات، واللعب بهم كقطع شطرنج، أما الكبار، فكانوا دائمًا فوق الشبهات، وربما فوق القانون، رغم ما يرتكب من انحرافات أخلاقية، وصفقات مشبوهة، وتحالف بين المال والسلطة والدين.
ولم يخجل من طرح الأسئلة المؤلمة: من يملك الحقيقة؟ ومن يحق له أن يُدين؟ بل قالها الكاتب صراحة: إن الفساد يحتمي بالسلطة، ويصبح هو الأقوى، ويصبح الإصلاح نوعًا من الجنون أو التمرد العبثي أو ضربًا من ضروب الخيال.
والمؤلم في الوقت نفسه أن المسلسل لم يُقابل حينها بضجة إعلامية كبيرة أو هجوم رقابي، وكأن المجتمع كان قد اعتاد هذا الشكل، أو ربما كان قد افتقد القدوة.
وهنا يكمن السؤال الأخطر: هل كنا متواطئين؟ هل كنا نشارك في جريمة السكوت؟
واليوم، وبعد مرور سنوات على عرض “أهل كايرو”، لا يزال هذا المسلسل شاهدًا حيًّا على أن الفن الحقيقي لا يُجامل، بل يُصارح ويُحذّر.
لقد قدّم نموذجًا لما يجب أن تكون عليه الدراما: ضميرًا حيًّا، يفضح الفساد ولا يخشى عواقب المواجهة.
إن ما نحتاجه اليوم ليس فقط أعمالًا فنية تفضح ما يجري، بل أيضًا وعيًا جمعيًا لا يستهين بما يُعرض، ولا يتعامل مع الفساد على أنه “تفصيلة عادية” أو “واقع لا يتغير”.
الفساد حين يتغلغل في جسد المجتمع، يصيب الجميع، حتى من يظنون أنهم بعيدون عنه.
فلنُعد النظر، ليس فقط فيما نشاهده، بل فيما نقبله ونسكت عليه.
فربما نحتاج اليوم إلى أكثر من “أهل كايرو”... نحتاج إلى شعب لا يرضى أن يكون متفرجًا على وطن تضيع فيه القيم، وعلى منظومة تُدار بمنطق "الحماية مقابل الولاء"، لا "العدل مقابل العمل".
إن صمت المجتمع عن هذه الظواهر هو أول خطوة في انتشارها، وإذا أردنا الإصلاح، فعلينا أن نبدأ من الوعي، ومن مواجهته وكشف المستور، تمامًا كما فعل المسلسل، الذي سيبقى علامة فارقة في تاريخ الدراما المصرية.
سيظل “أهل كايرو” ليس مجرد عمل درامي، بل شهادة فنية على زمن اختلط فيه المال بالعمل العام والحزبي، واختفى فيه الخط الفاصل بين الجاني والضحية.
لقد جسّد واقعًا مريرًا، لكنه واقع يجب ألا ننساه، حتى لا نُعيد نفس الأخطاء، وحتى لا نعود يومًا فنجد أنفسنا من جديد… في قلب الرماد.
وهي خلط السياسة والرأسمالية بالسلطة التي كانت في ذلك الوقت بدأت ترسم مرحلة ما بين 2005 حتى 2010، وخرجت الدراما عن صمتها من الضغوط التي مر بها المجتمع المصري.
لقد عشنا زمنًا غريبًا وقتها، وصار فيه الفساد هو الأصل، والشرف هو الاستثناء. زمنًا تزاوجت فيه السلطة مع المال، وأنجبت لنا جيلًا مشوهًا لا يعرف من الحقيقة شيئًا.
لم تعد هناك حدود بين السياسة والمال، وبين رجال الأعمال ورجال الدولة، الكل في دائرة واحدة، يتبادلون المصالح، ويحتمون ببعضهم البعض.
الجريمة في الرواية لم تكن جريمة قتل راقصة، بل كانت جريمة أكبر بكثير، وهي قتل ضمير، قتل الحقيقة، قتل الأمل في عدالة لا تنتصر إلا على الضعفاء.
في بلد أصبح يتساوى فيه الجاني مع الضحية، لذا لا بد من البحث عن من تبقّى له ضمير لكي نُساهم في ضبط إيقاع هذا الملف.
كاتب المقال الكاتب الصحفى مجدى سبلة رئيس مجلس إدارة مؤسسة دار الهلال السابق