تهامي كرم يكتب.. 30 يونيو… حين ارتفع علم الوطن وسقطت أقنعة المتاجرين بالشعب

في يوم الثلاثين من يونيو، نهضت مصر كلها من بين الركام والظلام، لتسطر في صفحات التاريخ ملحمة لا يليق بها إلا أن تُروى للأجيال. يوم خرج الشعب من بيوت الصبر والاحتراق، ممتلئًا إيمانًا بأن الوطن أكبر من الجماعة، وأعظم من الطائفة، وأبقى من كل متاجرة بالدين والوطن. يوم تعانقت يد الشعب مع ذراع الجيش، وتوحدت الإرادة مع القوة، ليصنع المصريون معجزة الخلاص، ويعيدوا للوطن هيبته قبل أن تبتلعه أطماع الفوضى وخناجر الخيانة.
هذه الثورة لم تكن نزهة غضب عابرة، بل كانت صرخة ميلاد جديدة لدولة قررت أن تقوم على قدميها رغم أنوف الحاقدين والمتآمرين. لكن كل ثورة، مهما بلغت عظمتها، تظل ناقصة ما لم يُحسن الناس صيانة ثمارها والوفاء لعهدها.
واليوم، ونحن نستعيد هذه الذكرى المضيئة، لابد أن نعترف أن أخطر ما يهدد روح 30 يونيو ليس عدوًا يتربص بنا على الحدود، بل هؤلاء الأدعياء الذين يلبسون عباءة النواب ويدّعون تمثيل الشعب، بينما لا تراهم إلا في سرادقات العزاء، وقاعات الأفراح، ومواكب المجاملات الرخيصة.
إن المواطن الذي خرج يوم الثورة ليس هو المواطن الذي تنطلي عليه مسرحيات الوجاهة الفارغة. لم يضحِ الناس بدمائهم كي يجلس بعض السادة على مقاعد البرلمان يتقاسمون المناصب ويشترون الولاءات. لم يخرج المصريون بالملايين كي ينسب كلّ متسلق إلى نفسه إنجازات لا فضل له فيها، فيزعم أن الحكومة تعمل بإلهامه، وأن الطرق والمشروعات بفضل توصياته الوهمية!
يا هؤلاء… الشعب الذي وحّد صفوفه مع الجيش وأسقط حكم الطغيان لن يقبل أن يتحوّل البرلمان إلى صالة شاي وبوفيه مفتوح ومكتب خدمات خاصة لمن يدفع ويصفق. إن التشريع والرقابة شرفٌ لا يعرفه من اعتاد التكسّب من بيع الوعود وشراء الأصوات.
إننا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى دماءٍ جديدةٍ طاهرة، لم تتلوث بوحل المال السياسي ولم تنحني أمام عروش المصالح الضيقة. نحتاج وجوهًا تخرج من صلب هذا الشعب لا من دفاتر الصفقات، وجباهًا مرفوعة لا تعرف الانحناء إلا لله، وعقولًا تؤمن أن مقعد البرلمان ليس سلعةً تُشترى ببضعة جنيهات توزع في الليالي السوداء، ولا بطاقة تتيح لصاحبها أن يتباهى بمواكب الزيف وحفلات النفاق. نريد نوابًا لا يختبئون خلف اللافتات الممجوجة ولا يتقنون فن نسب كل إنجاز إلى أنفسهم، بل يحملون ضمير أمةٍ عرفت معنى الثورة، وتذوقت طعم الحرية بعد أن دفعت أثمانًا موجعة من دمها وعرقها وكرامتها. نريد رجالًا ونساءً وُلدوا من رحم 30 يونيو، يستمدون شرعيتهم من نبض الشارع لا من موائد الولائم، ويعلمون أن خدمة الوطن شرف لا يرتقي إليه من باع صوته وباع روحه وباع حياءه في سوق الذل الرخيص.
"ثم يأتي الحديث عن القائمة المغلقة التي التهمت نصف مقاعد البرلمان، تلك القائمة التي صارت سيفًا مصلتًا على إرادة الناس، فتفرض عليهم أن يمنحوا أصواتهم لمجهولين لم يختاروهم أصلًا. كيف ندّعي احترام الديمقراطية وقد قُيّدت حرية الناخب بخمسين في المئة من البرلمان، وكأنه لا يحق له إلا أن يختار من أعدت لهم القوائم مسبقًا على مقاس الولاءات والمصالح؟ إن أخطر ما في هذه القوائم أنها تنتقص من قيمة الصوت الحر، وتحوّل الانتخابات إلى مسرحية عقيمة، يُجبر فيها الناس على تجرّع نواب لا يؤمنون بهم ولا يثقون فيهم.
وفي المقابل، يجب أن نرفع القبعة احترامًا وتقديرًا للرئيس عبد الفتاح السيسي، الذي تحمّل عبء حماية الدولة وأقسم أن يظلّ سندًا لهذا الشعب مهما كانت الأثمان. لقد عمل الرئيس بكل طاقته كي تبقى مصر دولة قوية مستقرة، صمدت أمام موجات الخراب التي ابتلعت غيرها، وأثبت للعالم أن الأوطان تُبنى بالفعل لا بالشعارات.
لكننا نعلم يقينًا أن قائدًا مهما كان مخلصًا لن ينجح ما لم يتحمل الشعب مسئوليته، وما لم يحسن اختيار نوابٍ حقيقيين يحفظون كرامة مقاعدهم، ويعلمون أن قاعة البرلمان ليست منبرًا للتهليل الجوفاء، بل ساحة رقابة وتشريع يعلو فيها صوت الفقراء لا صوت أصحاب المال السياسي.
في ذكرى 30 يونيو، فلنتعلم جميعًا: ان الثورات لا تنكسر حين يطعنها الأعداء، بل حين يفرط أهلها في صيانتها. وأن الوطن لا ينهض إلا حين يحسن الناس الاختيار، ويحفظون الأمانة التي ضحى من أجلها شهداؤهم.