الكاتب الصحفى محمد طلعت يكتب :دستور كازاخستان: ثلاثة عقود من الإصلاح والعدالة

تحتفل جمهورية كازاخستان خلال الايام القامة بمرور ثلاثين عامًا على إقرار دستورها الوطني، الذي تم اعتماده في عام 1995 ليكون نقطة تحول تاريخية في مسيرة الدولة الحديثة بعد الاستقلال. فقد مثّل الدستور مرجعية أساسية لبناء دولة القانون والمؤسسات، وأرسى دعائم سيادة العدالة، وضمان الحقوق والحريات، وتنظيم العلاقة بين السلطات بما يكفل الاستقرار السياسي والاجتماعي. واليوم، وبعد ثلاثة عقود من العمل المتواصل على تنفيذه وتطويره، يقف الدستور شاهدًا على نجاح كازاخستان في تحويل نصوصه إلى واقع ملموس جعلها موضع تقدير وإعجاب من المجتمع الدولي.
منذ إقرار الدستور، التزمت القيادة السياسية في كازاخستان بتطبيق مواده نصًا وروحًا، إدراكًا منها أن قوة الدولة لا تُقاس فقط بما تمتلكه من موارد طبيعية أو إمكانيات اقتصادية، بل بما تضمنه لمواطنيها من حقوق وحريات وعدالة. وقد جاء الدستور ليؤكد مبدأ سيادة الشعب باعتباره مصدر السلطة، وليضع أسس نظام سياسي يقوم على التعددية، ويتيح للمواطنين المشاركة الفاعلة في صياغة مستقبل بلادهم.
ولم تكتف الدولة بالالتزام الحرفي ببنود الدستور، بل عمدت على مدار السنوات إلى إدخال تعديلات جوهرية تراعي المستجدات وتستجيب لمتطلبات التنمية.
هذه التعديلات لم تكن شكلية أو سطحية، بل عكست حرص القيادة على تعزيز المشاركة الشعبية وتوسيع صلاحيات البرلمان، وتأكيد استقلالية القضاء، وضمان حرية الإعلام، بما يعكس رؤية استراتيجية نحو إقامة مجتمع ديمقراطي متوازن.
ومن أبرز تلك الإصلاحات تعزيز مبدأ الفصل بين السلطات، وتقوية دور المؤسسات التشريعية، بما يضمن رقابة فعالة على السلطة التنفيذية ويمنع أي شكل من أشكال الاستبداد.
لقد أصبحت العدالة ركيزة أساسية في فلسفة الدولة الكازاخية، حيث عملت الحكومة على إصلاح المنظومة القضائية بما يضمن نزاهتها وشفافيتها، كما أولت عناية خاصة بتعزيز المساواة بين المواطنين، وتوسيع نطاق الحريات المدنية، وتشجيع مشاركة المرأة والشباب في الحياة العامة. هذه السياسات لم تكن مجرد شعارات، بل تجسدت في ممارسات واقعية انعكست على حياة المواطن الكازاخي اليومية، وأصبحت نموذجًا يلقى الاحترام من جانب المجتمع الدولي.
إن مرور 30 عامًا على إقرار الدستور يمثل مناسبة للتأمل في حجم الإنجازات التي تحققت، سواء على صعيد بناء مؤسسات الدولة أو تعزيز موقع كازاخستان إقليميًا ودوليًا. فقد استطاعت البلاد، بفضل مرجعيتها الدستورية، أن تحقق قفزات نوعية في مجالات الاقتصاد والتعليم والصحة والبنية التحتية، حتى اصبحت واحدة من أسرع الدول نموًا في آسيا الوسطى. ولم يكن هذا التقدم منفصلًا عن الإصلاحات الدستورية، بل جاء نتيجة مباشرة لبيئة سياسية وقانونية مستقرة تضمن جذب الاستثمارات وتعزيز الشراكات الدولية.
وعلى الصعيد الدولي، حظيت كازاخستان بتقدير متزايد من دول العالم والمنظمات الدولية نظرًا لما أظهرته من التزام بمبادئ السلم والأمن، واحترامها للقانون الدولي وحقوق الإنسان.
ولعل هذا الإعجاب العالمي لا يرتبط فقط بالنهضة الاقتصادية أو الجغرافيا السياسية، وإنما يعكس نجاحها في تطوير منظومة تشريعية عادلة تستجيب لمتطلبات العصر وتحترم تطلعات المواطن.
وإذا كان الدستور قد أُقر قبل ثلاثة عقود في ظل تحديات جسيمة واجهتها الدولة الناشئة آنذاك، فإن استمراره اليوم كمرجعية حاكمة يبرهن على متانته ومرونته في آن واحد. فقد أتاح الدستور المجال لإجراء تعديلات إصلاحية كلما اقتضت الحاجة، من دون أن يفقد جوهره أو رسالته الأساسية، وهو ما يعكس حكمة في الصياغة، ووعيًا سياسيًا بضرورة مواكبة التطورات المحلية والدولية.
وتبقى التجربة الكازاخية في مجال الإصلاح الدستوري مثالًا ملهمًا لدول عديدة تسعى إلى التوفيق بين الاستقرار السياسي والانفتاح الديمقراطي. فهي تجربة أثبتت أن تحقيق العدالة لا يقتصر على النصوص القانونية فحسب، بل يتطلب إرادة سياسية صادقة، ومؤسسات قوية، وثقافة مجتمعية تؤمن بقيمة المشاركة واحترام القانون.
ومع بداية العقد الرابع من عمر الدستور، تتطلع كازاخستان إلى مواصلة مسيرة الإصلاح والتطوير، بما يرسخ مكانتها كدولة نموذجية في آسيا الوسطى والعالم. فالدستور الذي صاغ ملامح الدولة الحديثة لا يزال يشكل البوصلة التي توجه خطاها نحو المستقبل، مستندًا إلى مبادئ العدالة والحرية والشفافية، ومستلهمًا طموحات شعب يعتز بتاريخه ويثق في قيادته.
ويمكن القول إن مرور 30 عامًا على دستور كازاخستان ليس مجرد ذكرى تاريخية، بل هو تأكيد على نجاح تجربة فريدة استطاعت أن تجمع بين الاستقرار والإصلاح، وبين احترام الخصوصية الوطنية والانفتاح على العالم. ولعل هذا ما يجعلها بالفعل مثار إعجاب المجتمع الدولي، ونموذجًا يحتذى به في بناء الدول الحديثة القادرة على مواجهة التحديات وصياغة مستقبل يليق بأبنائها.