محمد حسين يكتب: «كراسة حياة»

أنا أعشق الأمثال، وأهيم بها كما يهيم المُشتاق بوجه حبيبته، وأحب تطبيق الأمثال على حياتي، فالأمثال بالنسبة لي شيءٌ مقدس.
يبدو أن الأمر مألوف... ففي الحياة ما هو أكثر غرابة.
لكن الغريب لم يأتِ بعد!
أنا أحمد منصور... إليكم قصتي.
ليس العجيب في حفظي للأمثال، ولا في إخلاصي في تطبيقها... فأنا أحفظ ٣٦٥ مثلًا فقط، ولا أستطيع أن أحفظ أكثر، أو أن أنسى ولو مثلًا واحدًا.
فلقد أُجبرت على هذا!
لماذا؟ وكيف؟
هذا ما أسرده لكم...
منذ الصغر وأنا أحب الأمثال، فأمي كانت السبب الرئيسي في حفظي لها. وكنت كأي غلامٍ يسمع من أمه أمثالًا لا يفهم معناها.
وفي يوم، وجدت أمي تردد هذا المثل: "اللي ما يعرفش يقول عدس"
شعرت أن المثل التصق في لا وعيي...أحببت جرسه، وأحببت صوت أمي وهي تقوله.
وساقني فضولي أن أعرف معناه...ذهبت لأمي وسألتها:
- أماه، بقولك إيه؟
- خير يا حبيبي؟
- كنت عاوز أعرف... هو إيه علاقة العدس بالمعرفة؟
- مش فاهمة يا واد! بتتفلسف عليا؟! أمك معاها ليسانس، بس أنا الفَأرِيَّة، واخترتكم إنتو بدل ما أنزل أشتغل، كان زماني مديرة!
- العفو يا أما، بس أنا بسمعك تقولي "اللي ما يعرفش يقول عدس"، وأنا مش فهمان!
- هههههههههه، أقولك يا واد، أي مثل ليه مورد ومضرب...
وشرحت أمي مورد المثل، فعرفته وحفظته.
دخلت امتحان الثانوية العامة، وكنت مذاكر كويس.
لكن توتر الامتحانات نساني...وكانت اللجنة شديدة، وماكنش حد عارف يتنفس.
وفي آخر امتحان – الكيمياء – كنت أعرف السؤال وأنسى إجابته.
علمت أن حلم كلية الطب أصبح مستحيلًا إن رسبت في هذا الامتحان.
وفجأة، وكأن وحيًا من السماء نزل على عقلي...
تذكرت مثل أمي ومورده، وتخيلت حكايته وكأنها أمامي على خشبة مسرح.
ثم نطق لساني بالكلمة السحرية: "عدس"!
والغريب، كلما نطقت "عدس" أتذكر الإجابة وأكتبها في ورقة الامتحان!
انتهى الامتحان، ونجحت، ودخلت كلية الطب، وكنت من أوائل الطلاب.
لكن الطب من الكليات الصعبة التي تتطلب جهدًا كبيرًا، فانغرست فيه، ونسيت الأمثال، بل قل: نسيت العدس ومورده.
وفي يوم شاق جدًا، مليء بمحاضرات وعمل وامتحانات، عدت إلى بيتي وليس في عقلي سوى النوم...
أسلمت جسدي للسرير، ونمت نومًا عميقًا.
صحوت من النوم لأجد الأغرب في الحياة...
لقد رجعت عامين إلى الوراء، فأنا طالب على وشك دخول امتحان الكيمياء بالثانوية العامة!
التشريح؟ الطب؟ كل هذا حلم؟!
لا... أنا أتذكر قواعد علم الطب التي درستها في السنة الأولى من الكلية...
أنا أتذكر كل شيء... لكني أنسى "العدس"!
آه... العدس... ما المورد؟!
نسيت؟!
عكفت على يد أمي أقبّلها، أتوسل إليها أن تحكي لي مورد مثل العدس.
جلست أمامها كطفل صغير، تسرد وأنا أكتب حتى لا أنسى.
أخذت ما كتبت، ودخلت غرفتي، أغلقت الباب عليّ، وضعته أمام عيني وبين يدي، وبدأت أتخيل ما كتبته كأنه على خشبة مسرح، ولساني يردد "عدس"، كما كنت في امتحان الكيمياء.
وفجأة... نمت نومًا عميقًا...
صحيت على صوت أمي توقظني للمحاضرة...
ذهبت إلى الجامعة لا أفهم شيئًا، إلا أني لا يجب أن أنسى "العدس" ومورده.
الفصل الثاني: حُنَين
دخلت الجامعة، جلست أمام المحاضر، وما في ذهني شيء إلا المثل ومورده.
أسرح كثيرًا، وقد لاحظ الدكتور شرودي، فسألني عن حديثه... فلم أستطع الإجابة.
لاحظ أصحابي المقربون شرودي وما أنا فيه...
وبعد انتهاء المحاضرة، توجهوا نحوي لمعرفة ما بي.
لكنّي استأذنت منهم وذهبت إلى مكان أجلس فيه وحدي لأفكر...
فيما حدث؟!
عدت إلى البيت خائبًا، وكأني "راجع بخُفّي حُنين"!
إنه مثلٌ سمعت أمي تردده كثيرًا...
وهنا جاءت الفكرة لأتأكد: أأنا أحلم؟ أم لا؟
أسرعت إلى أمي، وسألتها عن مورد هذا المثل.
ورغم دهشتها، استسلمت لرغبتي وأخبرتني، ودوّنت كل ما قالت.
في اليوم التالي، ذهبت إلى الجامعة، فإذا بالدكتور مصطفى الحسيني يقوم بعمل امتحان مفاجئ على ما قاله بالأمس.
وأنا لا أفقه شيئًا!
سلمت ورقة الامتحان ناصعة البياض، لا يشوّهها سوى اسمي!
رجعت متشائمًا إلى البيت، فإذا بكراسة الأمثال تعيد لي الأمل والتفاؤل.
هل حقًا تساعدني حكمة الأجداد؟
أم هو وهم؟!
أخذت الكراسة، وضعتها بين يدي، وبدأت أتخيل مورد المثل كما قالته أمي، وأردد "حنين"...
حتى غلبني النوم...
الفصل الثالث: الطبيب أنا
استيقظت، وذهبت إلى الجامعة منتظرًا رد فعل المثل.
دخلت المحاضرة، وكان الطلاب يتحدثون عن امتحان الأمس.
ثم جاءت محاضرة الدكتور الحسيني، وبدأها قائلًا:
- طلابي الأعزاء... لكم مني كل التقدير والاحترام. للأسف، سُرقت شنطتي الخاصة، وكان بها أوراق إجابة الامتحان وبعض المقتنيات الشخصية.
ثم خيرنا بين إعادة الامتحان أو إعطاء الجميع ٨٠٪ من الدرجات.
والأغرب أن الطلاب اختاروا ٨٠٪!
بدأت أتيقن أن ما يحدث ليس صدفة... وقررت ألا أنسى أي مثل تقوله أمي مطلقًا.
انغمست في دراستي، تفوقت على أقراني وعلى نفسي...والمثل في قلبي قبل عقلي.
الفصل الأخير: السر في أمي
لن أحدثكم عن باقي الأمثال...
لكم أن تتخيلوا أني كلما وقعت في شدة، لجأت إلى أمي، فأخبرتني بمثل، فسألتها عن مورده، فدوّنت وحفظت.
كبرت، وأمثال أمي وحدها كانت تتحقق، وكانت تحميني.
نسيان أي منها كان يعيدني إلى الماضي.
تنقلت في وظائف مهمة، حصلت على أوسمة رفيعة في سن صغيرة... فقد كانت الصعاب تهرب مني، كما تهرب الفريسة من الأسد.
تزوجت بمثل أمي، ونجحت بأمثالها أيضًا، ورزقني الله من فضله.
كراسة الأمثال لا تغادر يدي، بل لا تغادر عقلي.
أصبحت وِردي اليومي...
أحفظ كل شيء... حقًا، إنها كراسة حياتي.
حفظت ٣٦٤ مثلًا...
وجاء اليوم الموعود...
وصلت لمنصب نائب وزير الصحة، وصرت محل ثقة واحترام.
وكان الجميع يندهش: كيف فعلت هذا؟!
لا ينكر أحد كفاءتي، لكنهم لا يعلمون أن الكفاءة والأمثال لعبت دورًا...بل إن الأمثال لعبت الدور الأكبر.
جاء اليوم الذي أُعلن فيه تغيير الوزراء، وكانت الخطة تشمل وزير الصحة...وعلمت من مصادر موثوقة أنني من المرشحين للمنصب.
فرحت كثيرًا... لكن سرعان ما ذاب هذا الفرح حين علمت أن فرصتي ضعيفة، فأنا آخر المرشحين، وهناك من هو أكبر سنًّا وأعظم خبرة.
وسمعت إحدى الموظفات تقول:
- آه لو كل دول اعتذروا، هيمسكها عيل! صحيح: "يدي الحلق للي بلا ودان"!
تذكرت أمي... هرولت إلى بيتي ومعي كراسة حياتي...ولم أجد أمي.
سألت إحدى الخادمات عنها، فقالت:
- الحاجة الكبيرة تعبت شوية ونقلناها المستشفى، والست أمل معاها يا سيدي.
اتجهت فورًا إلى المستشفى، ووجدت أمل تنتظر بالخارج.
خرج الطبيب فقلت:
- أنا أحمد منصور، والست اللي جوه دي أمي، طمّني عليها، في إيه؟!
- اهدى يا دكتور، اتفضل معايا المكتب أشرح لك كل حاجة.
دخلت معه، فقال:
- اتفضل ارتاح يا دكتور.
- قولي بالله عليك، في إيه؟!
- إنت راجل دكتور، وعارف... الطب لا يمنع الموت.
- موت؟! أمي مالها؟!!
- والدتك سافرت بره مصر من ٣٥ سنة؟
- لأ، أمي ما سافرتش غير مرة واحدة للسعودية، راحت تعمل عمرة.
- سمعت عن مرض بيظهر في جنوب أفريقيا، بيصيب الستات في الأربعين، ويفضل كامن لحد ما يضعف جهاز المناعة، ويسبب الوفاة؟
- بس أمي ما راحتش جنوب أفريقيا.
- مش شرط، ممكن تكون اتعاملت مع حد مصاب...
والغريب إنك دكتور وما لاحظتش!
- أمي قليلة الشكوى...
- الأعمار بيد الله... خليك جنبها في آخر ساعاتها.
خرجت من عنده وكأن رصاصات اخترقتني.
ذهبت لزوجتي وطلبت منها العودة إلى البيت.
دخلت إلى أمي... أبكي... ومعي كراسة حياتي.
نسيت كل الأمثال... تذكرت أمي.
نسيت "عدس" و"حنين" و"خُفّي حُنين"...
وخطرت لي فكرة:
أن أنام على هذا النسيان... فأصحوا طالبًا قبل امتحان الكيمياء... أمنع أمي من أداء العمرة... وأمنع نفسي من أن أكون طبيبًا... فقط لأعيد أمي للحياة.
لكن إن عدت، سأنسى تدريجيًا كل الأمثال...
فعقلي كما هو...أو أراجع الأمثال وأنسى أمي...
ليتني أعرتك بعض اهتماماتي...الوقت يمر...سأخبركم بفعلتي لاحقًا...
لكن إن كنت مكاني...ماذا ستفعل؟