الدكتورة غادة صقر تكتب : ”يا دنيا دوخينا، بس ارحمينا!”

في يوم مشرق وعادي، وسط حرارة الأسعار اللاهبة وزحمة الأسواق، قررت المطربة عفاف راضي أن تلقي مناجاة خاصة للحكومة والتجار، وقفت أمام المرآة، نفضت غبار الماضي عن أغنيتها الشهيرة، وبدأت في تحوير كلماتها لتصبح رسالة مليئة بالحنان... على أمل أن تهدئ من نار الأسعار، بصوتها العذب تقول: "يهديك يرضيك، يهديك يرضيك الله يخليك!"، وكأنها تخاطب الأسعار بنفسها، لكن الريح تاخدها وتجري بها بين رفوف المحلات، وهي تتخبط بين الأسعار اللي وصلتلـ 400 جنيه للكيلو اللحمة، آه يا عفاف، لو كنتِ تعرفين ما الذي يحدث في جيوب الناس، كنتِ ستغنين: "الله يخليك...حن علينا هدي علينا شوية!"
وبينما كانت عفاف تصارع الأسعار، خرجت شيرين من وراء الستار لتكمل القصة، شيرين بطريقتها المتدفقة قالت: "آه يا دنيا الله... الدنيا حالها كدا!" ولفيت بينا يا دنيا ودوختينا الأسعار عمالة تجبنا شمال ويمين ، زى ما نكون فى دورة أكروبات! مش هنقول "دوخينا" بس، لأ، ده إحنا بنلف زي العجلة بتاعة الملاهي، وبدون ضمان إننا هنوصل لمحطة آمنة.
اللحمة والبانية والليمون ؟ خلاص بقت قصة واحلام من الخيال، والأسماك اللي كانت في يوم من الأيام "أكلة الغلابة"، بقت تنافس الكافيار في السعر.
مع ارتفاع الاسعار لم يتمالك الفنان القدير" توفيق الدقن" مع تلك اللحظات الفارقة من تاريخ الامة الا أن يوجة رسالة صادمة و تحذيرًا واضحًا لكل من الحكومة والتجار: "ألو، يا حكومة، ألو يا تجار، فين الرحمة؟ فين الإنسانية؟". الرجل فعلاً كأنه بيتكلم باسم الملايين، مش مجرد فنان، ده أصبح "المتحدث الرسمي باسم الناس اللى بقوا غلابة وجيوبهم الفاضية". والجملة القاتلة اللي قالها كانت كافية توجع القلوب: "الأسعار بقت جريمة، واللي حاصل ده مش ممكن " الدقن " يسكت علية ومعاة محمود المليجى !" ، وكأن الفنان عادل إمام قاعد في زاوية المسرح بيراقب الوضع عن قرب، وفجأة، بص للكاميرا وقال بعيونه اللي مش بتعرف تكدب: "هو في إيه هو حصل اية ؟ بتعملوا في الناس كده ليه؟"، كلمة واحدة منه كفاية تخلي أي حد يحس إنه داخل على مشهد من فيلم تراجيدى مع موسيقى كئيبة، لأن الوضع فعلاً بقى كابوس، الناس بتنام تحلم إنها هتصحى تلاقي الأسعار رجعت زي أيام الأبيض والأسود، لكن بتصحى تلاقي الكابوس مستمر، واللحمة بقت حلم بعيد المنال.
ونقف هنا للحظة مع الكوميديا السوداء في مشهد من الفيلم الكلاسيكي "لو كنت غني" للفنان الراحل عبد الفتاح القصري، اللي طلب علاوة من مديره عشان يواجه الأسعار اللي كانت بتغلي وقتها، ويقول بلساننا جميعًا: "ما يصحش كل شيء يغلى تمنه والبني آدم يفضل زي ما هو، لازم يغلى مع السوق!"، وكأنه بينادي بمطلب حقيقي: إذا كل حاجة بقت غالية، ليه البشر مابيزدوش؟ ليه المرتبات واقفة في مكانها؟
القصري كان بيجسد اللحظة اللي إحنا عايشينها دلوقتي، وكأنه شايف المستقبل الأسود اللي جاي. الأيام اللي اللحمة بقت فيها بـ400 جنيه، والسوق بقى غابة الناس فيها غلابة مجرد أرقام مش قادرة تلحق "الزمن اللي بيجري بيهم".
عارفين لو كان الفنان القدير عبد المنعم مدبولي عايش معانا في أيام الغلاء دي، كان هيقف على المسرح بملامحه الحزينة اللي كلها رومانسية حنين، ويقول بصوته الشجي: "كان ياما كان يا سادة يا كرام، كان الزمان فيه لحمةعند الغلبان والفقير... والرطل كان بقرشين صاغ "، وبعدين يقف شوية، يأخذ نفس عميق، ويكمل بابتسامة حزينة: "أما دلوقتي... اللحمة بقت زي الحلم المستحيل اللي بنشوفها في متعلقة، وما حدش يقدر يقرب منها!"
عبد النعم مدبولى يكمل المشهد التراجيدى- يطلع منديله من جيبه، يمسح دمعة نازلة وهو يقول: "زمان كنا بنشتري كيلو اللحمة كده ومفيش خوف ولا توتر، دلوقتي الواحد بيدخل الجزار كأنه داخل يعاين شقة في الزمالك... ينظر، يتأمل، وبعدين ينسحب بهدوء".
وبين جملة وجملة، تلاقيه بيقول بنغمة شجن: "يا ريت اللحمة ترجع تاني، ويا ريت زمان الطيبة يرجع معاه... بس اللي راح، مش جاي تاني، يا عين يا ليل!"
لكن مسك الختام كان من الفنان مظهر أبو النجا، اللي كعادته رد على أسعار اللحمة والجزارين وتجار الليمون بسخريته المعهودة: "يا حلاوة!"، يا مظهر، فعلاً، الحلاوة اللي بنتذوقها دلوقتي هي حلاوة "النار اللي مولعة في كل حاجة". كأن الأسعار بقت زي النار اللي مش بتعرف رحمة، وبتحرق كل شيء حواليها، حتى الأمل اللي كان باقي في جيوبنا.
إحنا بنعيش في زمن كوميديا سوداء، مفيش حاجة أكتر سخرية من إنك تخرج السوق تشتري علبة جبنة، وترجع محمل بديون زي اللي اشترى عربية! الأسعار بقت مش بس أرقام، دي بقت سكاكين بتقطع فينا، وكل فنان، من عفاف لشيرين لعادل إمام، شايفين المشهد بس بطريقتهم.
طب لو قلنا أن كوكب الشرق السيدة أم كلثوم والعندليب عبد الحليم حافظ لسة عايشين كانوا غنوا إية ،لو أم كلثوم كانت لسة عايشة وشافت نار الأسعار مولعة في جيوب الناس، مفيش شك إنها كانت هتحول إحدى أغانيها الشهيرة لمناجاة للحكومة والتجار، كان ممكن نسمعها بتقول في صوت مليان شجن:
"عايزنا نرجع زي زمان .. قول للزمان ارجع يا زمان.. بس الأسعار دي تهدى شوية يا زمان .. رجعوا اسعار اللحمةزى زمان .. رجعوا للناس الأمان!"
أم كلثوم بقدرتها الفذة على التعبير عن مشاعر الناس، كانت هتقول الكلام ده وهي بتحس بألم كل مواطن، وكأنها بترثي حال الشعب اللي الأسعار كانت بترفعه على جسر الأحلام وتمزقه في النهاية، الأغنية بدل ما تكون قصة حب، كانت هتتحول لقصة معاناة من نار الأسعار، وهي بتقول:"فات وضاع المعاش... وسابني الحلم وراح والسوق ولّع.. وكل يوم جرح وجراح!"
أما عبد الحليم حافظ، صاحب الصوت اللي دايمًا كان بيعبر عن الحب والحزن في نفس الوقت، مكنش هيسكت أكيد كان هيرجع يغني للناس أغنية جديدة بعنوان " خسارة خسارة فراق العزايم خسارة خسارة فراق الطواجن خسارة خسارة فراق اللحم الضانى ، هنسمعه بيغني بمرارة وهو بيصف حال الناس اللي بقت بتعافر:وهو بيناجى الحكومة والتجار- "قولوا قولوا الحقيقة الأسعار بقت نار والعيشة بقت جحيم ونار،كان الحب زمان حلو وبسيط دلوقتي اللحمة بقت حلم بعيد!"
عبد الحليم كان هيكون صوت الناس اللي بتحلم بالحياة الكريمة، واللي شايفة الأسعار بقت زي فيلم رعب طويل ملوش نهاية. كان هيغني بصوت مليان إحساس: "حبيبتي نار الأسعار خدتى كل الأحلام والجيوب بقت فاضية زي قلب مليان ملام!"
وكان هيسأل الحكومة بصوته الرقيق، زي ما سأل الحبيبة في أغانيه القديمة: "ليه الأسعار بقت جراح؟ ليه اللحمة بقت مستحيل؟
نفسي أفهم، ونفسي أعيش بدل ما أحلم بالعليل!"
في النهاية، أم كلثوم وعبد الحليم كانوا هيتحولوا لصوت الشعب، وبدل ما يغنوا عن الحب والجمال، كانوا هيغنوا عن الأسعار اللي بقت بتحرق جيوب الناس، وتحول حياتهم لحالة من الكوميديا السوداء .
كاتبة المقال الاستاذة الدكتورة غادة صقر الاستاذ المساعد للاعلام بجامعة دمياط وعضو مجلس النواب السابق