عبدالرحمن سمير يكتب...صيف 94

بخطوات سريعة يقترب الشاب ذو العشرين عاما من ركوب الحافلة التى تقله إلى ميناء نويبع ومنه للسفر إلى المملكة الأردنية الهاشمية للعمل فيها أثناء إجازته الصيفية الأهل والأصدقاء فى وداعه وهو يلوح لهم بيده فرحا لتلك المغامرة الغير محسوبة إطلاقا ، فهو لم يعمل قبل ذلك ولم يواجه تحديات العمل وظروفه الصعبة فى مصر. فكيف يذهب لبلد آخر للعمل بها لمدة ثلاثة أشهر فقط هى مدة الإجازة ؟ فلابد له من العودة بعدها لاستكمال دراسته في الجامعة . يريد صاحبنا أن يكون مثل أصحابه الذين سافروا من قبل وعادوا من هناك ببعض الأموال البسيطة التى ينفقونها ويتباهون بها أمام أهل قريتهم . شاب تعود دائماً أن لا يتعب نفسه في عمل أى شيء فدائماً طلباته مجابة فى حدود الإمكانيات المتاحة أخوته البنات يقمن بتحضير طعامه وملابسه وكافة الأشياء التي يريدها ودائما ما يتأمّر عليهن بحجة أنه الولد ولابد من سماع أوامره وتحكماته حتى ولو لم تكن صحيحة . فجأة يجد نفسه في حافلة تقله وآخرين إلى ميناء السفر خمس ساعات هى المدة التى قطعتها الحافلة من ميدان المطرية حتى ميناء نويبع البحري وهناك وعند منتصف الليل تصل الحافلات وتتجمع وينزل الجميع مئات الأشخاص يندفعون فى اتجاهات عديدة من يريد ختم أوراقه ، وهناك من يسأل عن الحمامات بعد هذه المسافة الطويلة ،وهناك من يسأل عن مطعم يأكل منه .مشاهد لم يرها قبل ذلك ، تزاحم شديد أناس يقابلهم لأول مرة في حياته من مختلف المحافظات المصرية بعضهم طلبة مثله والغالبية شباب بسيط يذهب للعمل لسنوات طويلة من أجل أن يعود فى النهاية بحلم تجهيز الشقة والارتباط بفتاة أحبها ووعدها بالعودة بالمال الوفير والزواج بها . هذا هو الحلم الذى يراود كل من كان يذهب للعمل فى الأردن أو العراق في تلك الفترة حيث يعود بعد تلك السنوات حاملاً معه التليفزيون الملون والتسجيل ذو البابين والأجهزة الكهربائية . بعد انتظار طويل ومع إشراقة الصباح يبدأ الطابور يتحرك لركوب تلك العبارة ويقوم الضباط بختم جوازات السفر .الجميع يصطف فى كل مكان على سطحها والعبارة تشق طريقها فى سهولة . وجوه الشباب تحمل ابتسامة ورجاء أن تكلل رحلتهم بكل نجاح ليعودوا إلى أهاليهم محملين بالمال لبناء البيت والزواج ومساعدة الإخوة فى زواجهم والتخفيف عن كاهل الأب الذى أثقلته الهموم و أعباء الحياة وانحنى ظهره منتظرا بفارغ الصبر عودة ابنه . أما صاحبنا الشاب فقد أخذ ينظر إلى تلك المياه والأمواج المتهادية يسرح ويفكر ويسأل نفسه ما الذى أفعله ؟ وهل كان القرار صائبا لتلك المغامرة ؟ ثم يخرج من حقيبته طعاما ليأكله ولينسى تلك الأسئلة فقد قضى الأمر وهو الآن وسط تلك الجموع منتظرا مصيره . تصل العبارة إلى ميناء العقبة الأردنى والجميع يتكالب على حقائبه فهى ترمى على الأرض وكل يجرى ليرى أين حقيبته بعضها مزقت والبعض لم يجدها وأخذ يبحث عنها .بعد ذلك يتوجه الجميع لركوب السيارات التى ستذهب بهم إلى عمان العاصمة. وصل صاحبنا بعد منتصف الليل، الهدوء يخيم على أجواء المدينة الجميلة، وكان عليه أن يشق طريقه وحده ليصل إلى أصدقائه المنتظرين له من خلال خطاباته التى أرسلها لهم قبل ذلك يعلمهم بقدومه.فلم يكن عصر الإنترنت قد بزغ بعد أو الواتس أو حتى التليفون المحمول. يسير في طرقات وشوارع عمان لا يعرف أين سيذهب بالظبط فكل ما أخبره به الأصدقاء اسم مكان مميز هناك وعليه أن يحاول الوصول إلى هذا المكان أخذ يسير بخطوات متثاقلة أرهقتها عدد ساعات السفر التى زادت عن الثلاثين ساعة حاملا حقيبته خفيفة الوزن رابطا حقيبة أصغر منها بكثير حول وسطه بها جواز السفر وبعض النقود البسيطة التى وفرها له أبوه. ظل ماشيا يجول ببصره فى شوارع تلك المدينة الغامضة له فلا يعرف شيئا عنها يتفحص بعض المارة فيجد تشابها واضحا بينهم وبين الناس في بلده لا فروق تذكر سوى فى بعض الملابس المختلفة من العقال على الرأس ،كما شاهد جبالا تحيط بها ودرجات سلالم منتشره على تلك المرتفعات لينزل منها الناس إلى الشوارع . أخيرا نجح صاحبنا فى الوصول إلى المكان وليجد بعض أصدقائه الذين أخذوه بالأحضان والسلامات الدافئة فقد كان مثل الغريق الذى ينتظر من ينجده فى هذا البلد الغريب ، والذى لا يعرف أصلا لماذا جاء إليها؟ وليسأل نفسه السؤال الأهم هل سيعود إلى بلده مظفرا ببعض الأموال البسيطة مثلما يفعل أصحابه ممن يسافرون فى إجازة الصيف أم سيعود بخفى حنين ؟